03-مارس-2016

آسانج على شرفته الإكوادورية في لندن (Getty)

منظومة التبعية الأمريكية، سياسيًا وأمنيًا وقضائيًا وإعلاميًا، فعالة جدًا في البلدان "العالمثالثية"، هذا ليس خبرًا، ولا حتى بالجملة المفيدة لناحية الجدة. أما ما يتم الابتعاد عنه إعلاميًا، والأهم صحفيًا، ليس على مستوى عربي فقط، بل عالميًا، هو تناول هذه التبعية بالقرب من بلادها، وليس الحديث عن هاييتي أو عن آلهة هاواي المقدسة في السماء، بل عن عواصم من وزن لندن وباريس، اللتين لا تحتاجان للحديث المطول في باب التعريف بهما، مدينتيان عالميتان، والأهم على مستوى ما تمثلانه من مستقر لأعمال السياسية والإعلام.

في الآن ذاته يتضح أن جنة حريات الإعلام المنشودة للمنفيين من صحافة العرب، وللمرتزقة العبثيين أيضًا، لندن، مفتونة بأن لا تخرج عن الصف، ليس صف حلف شمال الأطلسي فقط، بل والصف الأمريكي الاستخباري المرتبط باقتصاديات النفط والحرب ولوبياتهما بدرجة مفصلية، لذلك تبقي على حصارها المفروض على جوليان آسانج، بالرغم عن صدور القرار الأممي القاضي بحرية آسانج.

ما يستدعي سيرة آسانج ليس التبعية ونقد التبعية، على أهميته، إنما الافتقار الصحافي عربيًا

اقرأ/ي أيَضًا: لبنان الوحيد.. لبنان العنيد

من الحالات الفاضحة لمنظمومة التبعية التي سبقت حالة الصحفي الأسترالي/العالمي جوليان آسانج، حالة الأسير العربي في سجون فرنسا، جورج إبراهيم عبد الله، الذي يواجه السجن في فرنسا لتهم مرتبطة بأعمال المقاومة، الموصوفة إرهابًا على اللوائح الأمريكية، ولم توفر واشنطن ولا تل أبيب أيما مجهود خلال أكثر من عقدين في استمرار حبسه في فرنسا، والقضاء الفرنسي راضخ تمامًا، ويمارس التدليس في سبيل ذلك، واعترافات هيئة الادعاء التي تابعت قضية عبد الله لدى اعتقاله تقول ذلك، وإن تلت تقاعد هؤلاء المعترفين، سيناريو شبيه له الغلبة في حالة آسانج، إلا إن تدخلت المعجزات، أو أبرزت فطرة المضيف الإكوادوري ما يخرج عن المألوف، علمًا أن أخبارًا من نوع إنشاء شبكة إعلامية إكوادورية يديرها آسانج "من بعيد"، باتت شبه مؤكدة!

قد تكون حالة آسانج في لندن مشابهة، لكنها بالتأكيد أقل حدة من حالة عبد الله في فرنسا، جوليان آسانج رجل صحافة وبرمجيات، وجهه وسيط الاتهامات الموجهة ضده، حتى في السويد، ورابط موقع ويكيليكس، وصلت كل نقطة اتصال في الشبكة العنكبوتية على الكوكب.

اقرأ/ي أيَضًا: هل المرأة إنسان؟

ما يهم أكثر في قضية آسانج، المحاصر في سفارة الإكوادور مدعومًا من حكومة البلد في إقامته لاجئًا سياسيًا على أراضيهم الدبلوماسية في لندن، ليس ظروف الاحتجاز، ولا إن كان في سجن أو في ملجأ أو في تابوت، بل الأسباب، فالأسباب تكمن أولًا.

في رسالة إلكترونية كان قد وجهها جوليان آسانج، منتهى الـ2004، لبعض الموجودين في فلسطين، بعضهم مراسلين أجانب، وبعضهم فلسطينيين، قال بالنص "ضمن هذه الدعوة لمشروع كشف ما نستطيع كشفه للعالم، أعرف جيدًا مقدار العمل الممكن القيام به حيث أنتم، وآرى أننا بحاجة لأن نوضح ما لدينا بما هو، وليس ضمن أي اشتراطات نعرفها بالنسبة لحالة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي"، في ذلك الحين لم يكن أحد يعرف من هو آسانج تحديدًا، وكثرت الأقاويل، لكن لم يخطر ببال أن هذا هو الصحافي الذي نفتقد، قد لا يكون الشخص بالضرورة إنما المنهجية، فعًلا. 

كانت تلك الرسالة ضمن الوثائق التي دعمت بها السفارة الإسرائيلية في لندن رسائلها إلى الخارجية البريطانية بشأن قضية آسانج، فالرجل يخيف إسرائيل ويستفزها، بمقدار لا يقل عن ذلك لدى واشنطن.

ما يبعث على هذا الحديث، هو الحنين، الحنين إلى المستقبل، بكل تراكيبه لصحافة تطرح صحافة، لا بروباغندا فقط، للأسف أحوال ما بلغته كبريات المؤسسات الإعلامية والصحف العربية ليست أكثر من غياب الصحافة عن حياتها، وتكرش عجائزها أكثر، بالتالي لا يستغرب حال المؤسسات الإعلامية والصحف من الصف الثاني والثالث.. إلخ، فلما الاستغراب من مدى صهيونية إعلام مصر الانقلاب والعسكر، أو شعبوية إعلام الممانعة، إلخ..

وما يستدعي سيرة آسانج ليس التبعية ونقد التبعية، على أهميته، إنما الافتقار الصحافي عربيًا، إنها حقبة التصحر، بل "زمان رويبضة" الصحافة العربية، عذرًا رسول الله، فالساحة الإعلامية عربيًا مغرقة بالمنتجات، السوق لا يحتملها كلها، لكنه أيضًا لا يجد كل ضالته في هذا المنتج المتضخم في عالم الفضائيات والإنترنت، هذا عوضًا عن شعور العربي المستمر بعملية الاحتيال الإعلامي الموجهة صوبه. هذا أقل ما يمكن أن يشعر به قارئ عاقل تصل إليه طية من طيات اليوم السابع مثلُا.

يندر العثور على استقصاءات صحفية مستمرة ومتدفقة وبمستوى جودة لا يخدع، الإنجازات غالبًا فردية، وتوقيتها وتقطيشها خاضعان للرجع أكثر من الحدث نفسه. لذلك ما نحتاجه هو صحافة آسانج وأمثاله، المنهجية الممكنة لإنقاذ صحافي عربيًا، بما فيها من تشذيب وضبط للبروباغندا لصالح العمل الصحافي، بعيدًا عن المثاليات، قد يكون هذا الشكل الصحفي أقل تدميرًا لحواس المواطن العربي الحائر.

أما في خلفية المشهد، جوليان آسانج، من على شرفة سفارة الإكوادور.. تحت الحصار.

اقرأ/ي أيَضًا: 

فيزياء سياسية.. المعادلة التي دمرت سوريا

مصر.. جمهورية الأخطاء الفردية

قبائل العالم الأزرق