20-أكتوبر-2018

كانت الرواية السعودية عن مقتل خاشقجي محاولة بائسة لتبرئة محمد بن سلمان (Getty)

لم تكن "المصادفة" التي أوصلته إلى رأس السلطة في المملكة النفطية سيئة السمعة، بعد سلسلة من التقلبات داخل العائلة المالكة، كافية لولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، هذه المرة، حتى ينجو من واقعة اغتيال صحفي وكاتب، داخل مبنى سفارة بلاده في دولة أجنبية، فوجد نفسه أخيرًا، بعد أيام من التخبط والنفي، يصدَر رواية ركيكة، لم يقتنع بها حتى مناصروه أنفسهم.

وفقًا للرواية السعودية، تم تأجيل تسليم الوثائق الخاصة بخاشقجي حتى يوم محدد، "تصادف" فيه وجود فريق أمني في نفس الموقع وفي نفس التوقيت، أما الأكثر غرابة، أن يكون بعض أفراد الفريق من الدوائر الأمنية القريبة من ولي العهد 

حاول محمد بن سلمان، من خلال تقديم كبش فداء، تبرئة نفسه من الاتهامات المنتشرة عن تورطه في قتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي داخل القنصلية السعودية في اسطنبول، في الثاني من تشرين/ أكتوبر الجاري. حيث أعلن النائب العام  السعودي بأمر من الأمير نفسه، في وقت متأخر من مساء أمس الجمعة، نتائج التحقيقات التي جاءت تحت عنوان "المصادفة".

فوفقًا للرواية السعودية المتناقضة، تم تأجيل تسليم الوثائق الخاصة بخاشقجي حتى يوم محدد، "تَصادف" فيه وجود فريق أمني في نفس الموقع (القنصلية) وفي نفس التوقيت، أما الأكثر غرابة وفقًا للرواية، أن يكون بعض أفراد الفريق من الدوائر الأمنية القريبة من ولي العهد محمد بن سلمان، وأن تحدث مشاجرة بين الصحافي وأفراد من الفريق الأمني، تسفر عن مقتله.

اقرأ/ي أيضًا: هل تمتلك تركيا تسجيلات لعملية اغتيال خاشقجي؟

في نفس هذه الرواية متناهية الضعف، لن يكون من الصعب القول إن منشار تقطيع كان موجودًا في المكان بالصدفة أيضًا، وأنه اُستخدم لتمزيق الجثة، مع تواجد خبير تشريح ضمن الفريق الأمني. أما كاميرات المراقبة، فستكون معطلة طبعًا، وسيُمنح موظفو القنصلية إجازة في نفس اليوم. بينما لن يعرف ولي العهد، الذي يدعي معرفة نوايا المعارضين ومؤامراتهم الخفية، بذلك كله، إلا بعد إجراء التحقيقات أخيرًا.

الإعلان السعودي

بعد 18 يومًا من اختفاء خاشقجي إذًا، أصدرت المملكة العربية السعودية ما أسمته نتائج التحقيقات حول الحادث، وأعلنت في الساعات الأولى من صباح اليوم بتوقيت الرياض، مساء أمس بتوقيت واشنطن، بيانات وأوامر ملكية، بالتحقيق والإعفاء، تدور جميعها حول حادث خاشقجي، بعد أن اعترفت الرياض للمرة الأولى بمقتله، على أثر ما قالت إنه مشاجرة  مع مسؤولين سعوديين تصادف وجودهم داخل القنصلية.

بطبيعة الحال، فقد سعت نتائج التحقيقات لتبرئة ساحة ولي العهد السعودي، وإبعاده عن مسار الشكوك كشريك أو متورط، في قتل خاشقجي، لكن هذه الرواية، أثارت العديد من التساؤلات وعلامات الاستفهام، والسخرية أيضًا.

وأصدر العاهل السعودي، عددًا من الإعفاءات لعدد من المسؤولين في المخابرات على رأسهم نائب الرئيس أحمد عسيري، إضافة إلى مستشار سياسي غير أمني، هو سعود بن عبدالله القحطاني، المستشار بالديوان الملكي. وما يزيد من غرابة النتائج والقرارات السعودية، هو تشكيل لجنة وزارية برئاسة محمد بن سلمان، لإعادة هيكلة الاستخبارات العامة، بعد تقرير رفعه ولي العهد للملك يطالبه بإعادة هيكلة رئاسة الاستخبارات العامة وتحديث نظامها ولوائحها وتحديد صلاحياتها بشكل دقيق.

وفي حين استمر الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، في مواقفه المتضاربة، ورحب بإعلان السعودية نتائج تحقيقاتها بقضية اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي، معتبرًا ذلك "خطوة أولى جيدة"، وأشار فورًا إلى أنه يصدق التفسير السعودي بشأن مصير خاشقجي وملابسات موته معتبرًا ذلك نقطة تحول ذكية، فإن العديد من الصحف والمسؤولين ونواب  الكونغرس والشيوخ، أكدوا على استمرار الضغط وعدم تصديق الرواية بشكلها الحالي.

تضليل ركيك

تمثلت أولى الملاحظات في قضية خاشقجي، في التربص الواضح والتخطيط المسبق للعملية، حيث أجل موظفو القنصلية عن عمد إصدار أوراق رسمية كان خاشقجي قد تقدم بطلب لإصدارها، وطالبوه بالعودة يوم 2 تشرين الأول/أكتوبر الجاري، وهو نفس الموعد الذي وصل فيه الفريق الأمني القادم من الرياض إلى إسطنبول. وهو ما يشير لتربص وتخطيط مسبق. ووفقًا للرواية السعودية العجائبية، فإنه عقب دخول خاشقجي للقنصلية جرت مناقشات مع بعض الأشخاص تحولت لحدوث شجار واشتباك بالأيدي مما أدى إلى وفاته، لكن الرواية لم تقدم أي تفسير لتواجد هذا العدد المكون 18 شخصًا أغلبهم من الضباط في القنصلية في إسطنبول، وبعضهم من الدوائر المقربة لمحمد بن سلمان.

اقرأ/ي أيضًا: بالأدلة والتفاصيل.. كيف تستدرج السعودية معارضيها في الخارج؟

أما ثاني الملاحظات التي تهدم الرواية السعودية، فكان موقع المشاجرة (القنصلية). فبفرض الاقتناع بأن المصادفة وحدها جمعت هؤلاء في نفس التوقيت، ونفس المكان، فإنه سيتعذر تصديق أن حوارًا بين طرفين، تحول إلى مشاجرة داخل مكان دبلوماسي مثل القنصلية، مع تواجد أمن وموظفين، وربما مواطنين أو سياح جاؤوا لطلب خدمات أو وثائق. بالإضافة إلى أن إخفاء تسجيلات الكاميرات، رغم وجودها بالفعل، ومنح إجازة للموظفين الأجانب في نفس اليوم، يضيف مزيدًا من التناقضات.

تورط ولي العهد واختفاء الجثة

كذب ولي العهد السعودي، على الرأي العام منذ البداية، وقال في حوار أجراه مع شبكة "بلومبيرغ" الأمريكية، في 5 تشرين الأول/أكتوبر الجاري، إن خاشقجي غادر القنصلية. ويعتبر مراقبون هذه الملاحظة واحدة من أهم التأكيدات على التورط المباشر لولي العهد السعودي، إذ ليس من القابل للتصديق أنه لم يطلب من القنصلية تسجيلات خروج لخاشقجي، أو أي دليل آخر قبل التورط بأزمة دبلوماسية واسعة.

لم تبحث السعودية، كما يبدو واضحًا، حتى عن رواية يمكن تصديقها، وإنما عن مخرج يستطيع عن طريقه المستفيدون من إدارة محمد بن سلمان، تبرير استمرار التعامل معه

لم تكن رواية محمد بن سلمان عن خروج خاشقجي، محاولة للهروب فقط من سؤال محرج وقتها، ولكنه كان توجيهًا للرأي العام، مع ثقة بالغة. وترك ابن سلمان الإعلام السعودي الذي لا ينطق عن الهوى، للتشكيك في كل الروايات بداية من أن خاشقجي دخل للقنصلية من الأساس، وصولًا إلى التشكيك في خطيبته، التي كانت الشاهد الأساسي على دخوله إلى القنصلية، واتهامها أنها عنصر مخابرات.

أما جثة خاشقجي، التي اختفت من دون معرفة أي تفاصيل حولها، اختفت مرة أخرى من بيان النائب العام السعودي، ولم يعلن مصير الجثة التي كان من المفترض أن تكون موجودة وكان من السهل لو تم عرضها على الطب الشرعي، أن يثبت أن الوفاة تمت عقب مشاجرة ولم يكن هناك تعذيب لساعات طويلة، وهو ما يدفع بشكل كبير لتصديق أن الجثة -التي تبحث عنها الأجهزة الأمنية في تركيا في الوقت الحالي- قطعت بمنشار بعد جولة من التعذيب.

لم تبحث السعودية، كما يبدو واضحًا، حتى عن رواية يمكن تصديقها، وإنما عن مخرج يستطيع عن طريقه المستفيدون من إدارة محمد بن سلمان، تبرير استمرار التعامل معه، رغم سجل مليء بالسواد، أما الأطراف التي بدأت حملة مقاطعة ضد السعودية، أو تلك التي بدأت مشروعات لفرض عقوبات عليها، فليس من الوارد، أن ثنيهم مثل هذه السردية الركيكة عن مساعيهم.

 

اقرأ/ي أيضًا:

 اختطاف جمال خاشقجي في إسطنبول.. وقائع محتملة ببصمة ابن سلمان!

اغتيال خاشقجي وهوس السلطة بالقتل