02-يناير-2016

قوات المقاومة في تعز

تسعة أشهر وتعز تعالج آلام مخاض حمل يكاد أن يبسط وجوده ويتخلق من رحم تضحيات هذه المحافظة الثورية، تسعة أشهر وتعز تدافع عن مشروعها الوطني الكبير وحقها في الحياة ضد مليشيا الانقلاب وعصابات الموت. في البدء، كانت المقاومة الشعبية الطوعية، التي كانت مجرد رد فعل عفوي رافض أجمع الناس عليه وترددوا في الانخراط به لجملة أسباب بعضها ذي طابع ثقافي سلوكي مدني تتميز تعز به، يرافقه نزوع أهلها للسلم وخوفهم الذاتي من العودة لحمل السلاح مجددًا وتشكيل المليشيا والعمل الجبهوي ذي الطابع الثوري النضالي الذي كانت قد خلعت معطفه ذات دولة.

تسعة أشهر وتعز تدافع عن مشروعها الوطني الكبير وحقها في الحياة ضد مليشيا الانقلاب وعصابات الموت

وبين شرعنة الفعل المسلح المقاوم والاحتجاجات السلمية التي لم تترك لها بنادق الغزاة مساحة للحركة، كان خيار البندقية هو الصوت الوحيد للضحية أمام سياط نار جلاد لم تأخذه بصدور أهلها العارية الرحمة. جنون مشروع القوة ومسيرة الموت لم يشفعا لسلمية قوة المشروع ولا للجراح المقدسة التي وضعت نياشينها على أقدام عشرات الآلاف الذين حملوا أرواحهم وذهبوا بها في مسيرةٍ راجلةٍ للحياة لتحرير الوطن من نير الاستبداد والكهنوت، ولم توقفهم دروس التاريخ لهذه المدينة عن نشر عتمتهم.

كانت حرب صيف 1994هي البروفة الأولى لظهور مليشيا الحوثي ضمن تحالف قوى السلطة في الشمال التي خاضت حربها ضد الجنوب تحت عدة أغطية شرعت لها تلك المغامرة الدامية، وكان الدين السياسي بطبيعة الحال أهم أسلحة هذا التحالف لتأثيره الكبير على مجتمع ما زالت القوى التقليدية تتحكم في تسييره وفق خطاب المنبر ورغبات مشايخ الدين والقبيلة.

"الشباب المؤمن"، أو ما أصبح يعرف حاليًا بـ"أنصار الله"، وبينهما يمتد تاريخ دام لمسيرة جماعة الحوثي التي لم تتوقف عن حربٍ إلا لتستعد لخوض غمار أخرى، أحيانًا بدعم خفي من النظام، وفي أحايين شتى تحت مبررات خفية معه.

"الحوثيون" هذه الجماعة الدينية العصبوية التي اشتقت اسمها من اسم مؤسسها بدر الدين الحوثي الذي تعود أصوله إلى مدينة حوث، التابعة إداريًا لمحافظة عمران المجاورة لمحافظة صعدة، مركز الجماعة والحاضن الأكبر لها. صعدة كانت ذات يوم عاصمة للدولة الزيدية التي توسعت بعد ذلك لتصبح مذهبًا دينيًا متفرعًا من المذهب الشيعي الذي تتصدر زعامته جمهورية إيران، وعلى رغم مزاعم علماء اليمن قرب المذهب الزيدي للمذهب السني الذي تتبعه الغالبية الشعبية في اليمن، خاصة جغرافية الوسط والجنوب.

للصراع المذهبي في اليمن تاريخ طويل، نتجت عنه مجموعة من الدويلات الصغيرة

للصراع المذهبي في اليمن تاريخ طويل، نتجت عنه مجموعة من الدويلات الصغيرة، ويمكن تسبيب ضياع الأجزاء الشمالية من اليمن نتيجة لهذا الصراع المذهبي بين الإمام الزيدي حميد الدين وبين الأدربسي الذي دانت لسلطته مناطق عسير ونجران وتهام. 

وكان صلح دعان 1914 بين الأتراك الطرف الثالث في الصراع على حكم اليمن قد ثبت حاكمية الإمام على المنتمين للمذهب الزيدي، بينما احتفظ لنفسه بتمثيل الدولة العثمانية، وأسقطت المعاهدة حق الدولة في جباية الزكاة والصدقات وإقامة التحاكم عن الطائفة الزيدية، بينما اقتصر تنفيذها له على الطائفة السنية، وتغافل الطرفان بموجبه عن الإدريسي رغم نفوذه وسلطته، وهو الأمر الذي دفع بالأخير إلى خوض الحرب العالمية الأولى إلى جانب إيطاليا، بينما كان خصمه الإمام يعلن أن كل قوته وأسلحته رهن أوامر الإمبراطورية العثمانية الطرف الآخر للحرب العالمية.

هاهي اليمن مجددًا تخوض حروب الإنابة ويتحول الإنسان بها إلى مجرد وقود وبيادق لمعارك قوى إقليمية، تحاول تجنب كلف الضحايا في المواجهات الاحتمالية المباشرة، لذا نقلت معاركها لساحات بعيدة عن التأثير المباشر لشعوبها، وتنتظر حصاد الدم لتعلن نصرها على منافسها وتضمن بذلك الزعامة الدينية لشعوبها التي مزقتها المذاهب والطرائق والشيع.

ومن منطلق وهم الدولة الذي كان قائمًا وما زال، أثث الحوثيون مشروعهم الرامي إلى صنع دولة الوهم وفق فقه الضرورة ومشروع الثورة الإسلامية في إيران، كمرجع مذهبي وثوري داعم، ساعدهم في ذلك رخاوة الأحزاب السياسية وغياب الثقة الشعبية بها نظرًا لبعدها عن همومهم ومشاكلهم اليومية التي جعلتها تتحول من ممثلة لهم إلى مجرد أرجوزات تمثل عليهم، لهذا وجد الحوثيون فرصتهم السانحة التي وفرتها لهم القوى السياسية الزائفة التي تفتقد مشاريعها الخاصة وبرامجها البديلة، لذا لم يتخوف أنصار الله من التسلح بمشروع القوة بدلًا من قوة المشروع.

في اليمن، لم يتخوف "أنصار الله" من التسلح بمشروع القوة بدلًا من قوة المشروع

بعد ستة حروب افتراضية مع الدولة فقدت بموجبها سيادتها وسلطتها والآلاف من جنودها وسلاحها، كان الحوثيون قد اكتسبوا خبرة الحروب وتوسعت ملازمهم الورقية لتصبح جغرافيا كنتونية لا سيدة لها إلا لسيدهم، وأصبح أمر تحالفهم مع خصم الأمس ضرورة مبررة لمسيرة قرآنية معمدة بالدم ومكللة بالموت، ومن خلالها وجد الدكتاتور المخلوع فرصته للعودة إلى سدة الحكم والسلطة ولو من باب الشرعية الثورية الانقلابية التي يتصدرها أعداء ويتخفى وراء تحالفاتها وجهه المحروق.

كانت المواجهات الأشد والكلف الأكبر كما حدث في حوار البنادق الكهنوتية وأبناء الواجهات الحضارية الأكثر تمدنًا في اليمن الرافضة للانقلاب واختطاف مشروع الدولة ومصادرة الأحلام المؤجلة، وكانت عدن وتعز أكثر المحافظات وعيًا أيضًا، وأكثر المحافظات تضحية لوقف مشروع مسيرة الموت والانتصار للحياة.

تحررت عدن ومعظم جغرافيا الجنوب من سيطرة المليشيا التي ركزت جنونها وحقدها على تعز، مستخدمة في ذلك معظم ألويتها العسكرية وحقدها الطائفي وعصبويتها المذهبية وسلاح الدولة، دون أن يكفل لها ذلك تحقيق نصر معنوي يرفع من أسهمها في صالات التسويات السياسية، أو يرفع سقف صوتها في غرف الحوارات المديولة. تسعة أشهر من الصمود الأسطوري تحت النار، لكن تعز، من ثقب النور الذي حفرته بنادق مقاومتها، تنتظر تخلق جنينها وتترقب لحظات التخلق النازف بحب.

اقرأ/ي أيضًا:

ناصريو اليمن.. انسحاب فيسبوكي فقط

مقابر اليمن.. خفف الوطء