05-يناير-2019

من المنتظر أن يشهد السودان تصعيدًا في الاحتجاجات (أ.ب)

خلال الأيام الماضية، أطل الرئيس السوداني عمر البشير في أكثر من مناسبة أُعدت خصيصًا له، ليبدو مسيطرًا على الأوضاع العسكرية والسياسية في البلاد، فبعد أن طاف على قيادة الجيش والأمن والشرطة، دلف صوب التجمع النقابي الموالي له، وألقى عليهم خطابًا مرتجلًا باهى فيه بأصوله الفقيرة، كونه ابن عامل بسيط، عانى كثيرًا في شبابه حتى أصبح رئيسًا للجمهورية.

رغم توحش آلة القمع، واتساع موجة الاعتقالات الاستباقية لتشمل إعلاميين وشخصيات سياسية فاعلة، إلا أن الاحتجاجات لم تتوقف في السودان

أثار هذا الخطاب جدلًا في مواقع التواصل الاجتماعي، وبدا أقرب لاستعطاف الجماهير الثائرة، التي اتسعت مطالبها من العيش والحرية إلى تنحي الرئيس، لكن البشير برر الأزمة بوجود مؤامرة خارحية، أخذت أشكالًا متعددة من الحصار، وتسعى لتركيع السودان، على حد وصفه.

اقرأ/ي أيضًا: احتجاجات عالمية على شروط معولمة.. السترات الصفراء أطلقت الشرارة

ورغم توحش آلة القمع، واتساع موجة الاعتقالات الاستباقية لتشمل إعلاميين وشخصيات سياسية فاعلة في الحراك الأخير، إلا أن الاحتجاجات لم تتوقف بشكل كامل، ودخلت العام 2019، وهى أكثر حماسًا لبلوغ أهدافها، وقد انضمت لها قوى سياسية جديدة، في محاولة لتوجيه دفة الأحداث إلى ذروة الانتفاضة الشاملة، حتى لا تمتص الحكومة غضب الشارع بإغراق الأسواق بالسلع الضرورية، وإنهاء بعض مظاهر الأزمة.

إعلان الحرية والتغيير

نهاية الأسبوع الماضي، فضت قوات الأمن والشرطة مظاهرة حاشدة في مدينة بورتسودان شرقي البلاد، دعت إليها القوى السياسية المعارضة، بينما أعلن تجمع المهنيين في الخرطوم عن مواصلة المواكب السلمية، أمس الجمعة، حيث خرج بعض المصليين في مسجد ود نوباوي بأم درمان. فيما أعلنت قوى المعارضة الرئيسية في السودان، وتجمع المهنيين الإثنين الماضي "إعلان الحرية والتغيير" في خطوة وصفت بالمهمة، لتجميع شتات القوى المعارضة، والاتفاق على برنامج الحد الأدنى.

وفي مواصلة للحراك الجماهيري، أصدر تجمع المهنيين وحلفاؤه الجدد بيانًا أعلنوا فيه مواصلة تنظيم المواكب السلمية في العاصمة الخرطوم ابتداء من يوم الجمعة، على أن يتم تنظيم مظاهرتين يومي الأحد والأربعاء للمطالبة بتنحي الرئيس عمر البشير، وشدد بيان تجمع المهنيين على أن الملاحقات والاعتقالات والقتل لن تثني عن مواصلة طريق "إسقاط النظام"، متعهدًا بمواصلة النهج السلمي رغم "الهجمة الشرسة أمنيًا وإعلاميًا".

فيما يترقب السودانيون يوم الأحد السادس من كانون الثاني/ يناير الجاري، تنظيم موكب ثالث إلى القصر الرئاسي، يليه تجمع آخر نهاية هذا الأسبوع سوف يتجه إلى البرلمان لتسليم مذكرة تطالب برحيل النظام. وحددت ملصقات جرى توزيعها في وسائط التواصل الاجتماعي مواقع التحرك لموكب الأحد، بأربع مناطق رئيسية مختلفة داخل الخرطوم، سوف تتوجه جميعها صوب القصر الجمهوري.

محاولة تنفيس سياسي

في خطوة وصفت بأنها محاولة تنفيس للاحتقان السياسي وامتصاص حماس الشارع الثائر ضد الحكومة، أجرى الرئيس البشير تعديلات وزارية وإدارية في حكومته، وأقال وزير الصحة الاتحادي محمد أبوزيد المصطفى ممثل جماعة أنصار السنة من موقعه وعين مكانه الخير النور المبارك، فضلًا عن تعينات وتنقلات أخرى، شملت عديد الأمانات والمجالس الوزارية، حيث تمت إعادة مدير التلفزيون السابق محمد حاتم سليمان إلى موقعه، لمواجهة الحملة الإعلامية الضارية ضد الحكومة، رغم اتهامات الفساد الإداري التي ظلت تلاحق حاتم ودخلت أضابير المحاكم.

موجة اعتقالات استباقية

ومن الشواهد التي سوف تشير إلى إخفاق القمع الأمني في إيقاف التظاهرات، هو إمكانية نجاح موكبي الأحد والأربعاء، كما يرى البعض، حيث تراهن السُطات على فشلهما وعدم تجاوب الشارع السوداني مع تلك المواكب، وأن تنجح الاعتقالات الاستباقية التي اتسعت موجتها نهاية الأسبوع الماضي، في شلها وإطفاء حماسها الثوري. فيما استهدفت الاعتقالات شخصيات فاعلة في الحراك الثوري، باعتقال عضو سكرتارية تجمع المهنيين محمد ناجي الأصم، ووزير الخارجية الأسبق إبراهيم طه أيوب، ومئات الكوادر الحزبية المعارضة والناشطين والأكاديميين، بجانب استدعاء عدد من الصحافيين.

إسناد خارجي  

لكن ثمة عوامل أخرى، ربما تتفوق على التقديرات الأمنية، وهى أن تجمع المهنيين المحرك الأساسي للأحداث ينعقد وينفض في غرف الشبكة العنكبوتية التي يصعب مداهمتها، وكما هو واضح فإن حلقات غامضة تدير الأوضاع بشكل متصاعد يصعب اختراقه، بجانب إشارة الرئيس البشير في خطابه أمام التجمع النقابي لوجود إسناد خارجي معلوماتي. وهو ما لا يبدو منطقيًا، عطفًا على كونه حيلة تقليدية لأنظمة الاستبداد العربية، حيث يصعب الجزم أن أي من المحاور الخارجية تعمل حاليًا لإسقاط النظام، هذا إذا عزلنا مخاوف الأوربيين من الفوضى التي سوف تنجم عنها قوافل الهجرة، باعتبار أن السودان منطقة عبور أفريقي إلى القارة العجوز، بينما كان محيرًا بالفعل الصمت الغريب لحكومة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على تطورات الأوضاع في السودان.

القفز من المركب الغارق

فيما يتعلق بانسحاب نحو 22 حزبًا سياسيًا من الحكومة، من بينهم حزب الأمة الذي يرأسه نائب رئيس الوزراء السابق ووزير الاستثمار مبارك الفاضل، والدكتور غازي صلاح الدين رئيس حركة الإصلاح الآن وأبرز الشخصيات الإسلامية التي انشقت عن النظام الحاكم، فقد ألمح إليهم الرئيس البشير في خطابه الأخير للأحزاب المنسحبة من حكومته، قائلًا "إنهم درجوا على القفز من المركب كل مرة بحسبان أنها أوشكت على الغرق".

وزعم البشير تلقيه نصائح من جهة لم يسمها، بتطبيع العلاقات مع إسرائيل لكي تهدأ الأحوال في بلاده، وقال في لقاء مع رجال الطرق الصوفية: "نصحونا بالتطبيع مع إسرائيل لتنفرج علينا، لكننا نقول الأرزاق بيد الله، وليست بيد أحد". وحول الاضطرابات التي سادت البلاد مؤخرًا والعنف الذي تخللها، زعم أنه يعمل "لتوفير الأمن والعيش الكريم والرفاهية للمواطنين"، مضيفًا في عبارة فسرت بأنها دليل على استخدام الرصاص الحي في فض التظاهرات: "لا نقتل الناس تشفيّا، وفي المحصلة لا يصح إلا الصحيح".

أما الشيء المفاجئ في تطورات الأوضاع السودانية، فكان صمت القيادات التاريخية داخل النظام الحاكم، أو ما يعرف بالحرس القديم، والتي كانت دائمًا تتدخل بالمشورة والإسناد السياسي، إلى درجة أن برنامج الرئيس بدا خلال الأيام الماضية مزدحًما جدًا، في الجانب العسكري والتنظيمي، يخطط ويوجه ويتحرك ويدير الأزمة لوحده تقريبًا.

اقرأ/ي أيضًا: البشير يقمع سلمية تظاهرات السودان بالرصاص والتخوين​

حيرة المؤتمر الشعبي

من جهته يعيش المؤتمر الشعبي الحليف الأبرز للنظام حالة من الاستقطاب والضغط العنيف وسط أعضائه، لإعلان موقف نهائي من الأوضاع الحالية، والانسجاب من الحكومة، وقال الممثل الشعبي في الدولة مساعد رئيس الجمهورية، إبراهيم السنوسي، عشية ليلة أعياد الاستقلال مطلع العام الجديد معلقًا على مطالب المحتجين، إن "لا خير فيهم إن لم يقولوها ولا خير فينا إن لم نسمعها"، بمعنى تبني المسؤولية الكاملة. ودافع الشعبي عن الاحتجاجات الأخيرة ورفض اتهامات الحكومة لمن وصفتهم بعناصر من حركة عبد الواحد نور تم تدريبها من قبل الموساد للمشاركة في الاحتجاجات وحرق مقار المؤتمر الوطني، لكنه أبدى في نفس الوقت رهانًا على التفاف القوات النظامية حول الرئيس وحمايته من رشقات المعارضة المأزومة والمنقسمة علي نفسها، واليأس الذي غالبًا سوف يدب في نفوس المحتجين بسبب القمع الشديد، بينما سيكون التحدي الأكبر الذي سيجابهه في حالة عدم انقطاع المد الثوري، هو انخراط قاعدته الشبابية في الاحتجاجات بصورة أكثر فعالية.

 يعيش المؤتمر الشعبي الحليف الأبرز للنظام السوداني حالة من الاستقطاب والضغط العنيف وسط أعضائه، لإعلان موقف نهائي من الاحتجاجات

في الخلاصة، تبدو مبادرات الحزب الحاكم حتى الآن وكأنها بمثابة بحث عن حلول مؤقتة تهدئ الشارع الغاضب دون أن تستأصل الأزمة من جذورها، وهى أزمة اقتصادية وسياسية في مجملها. أو بالأحرى فإن تحركات الرئيس أظهرت اعتقاده بأن أفضل طريقة لحل المشاكل هو تجاهلها، لاسيما وأن المطلب الأساسي الآن هو التنحي. ووفقًا لكثير من الآراء فإن الاعتماد على الحلول الأمنية دون دفع اقتصادي وسياسي، لن يجدي، حتى مع وفرة الخبز والوقود بشكل مؤقت أو دائم، بجانب قرار تعطيل الدراسة وإيقاف الإنترنت وتطبيقات التراسل.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الشارع السوداني ينتفض ضد الجوع والقمع.. لا شيء لدى السلطة إلا "البوليس"

ضد الغلاء والفساد.. أبرز الاحتجاجات العربية في 2018