لطالما شغل الفلاسفة والعقلاء وأهل العلم وأهل الرحمة وعلماء النفس سؤال: لم يقتل الإنسان إنسانًا آخر؟ ورأى كثيرون منهم أن حبّ الحياة والعيش الفخم والسعي وراء حياة أفضل، والاعتقاد أن لا بد لها أن تتوفر وإن على حساب الآخر أو بقتله وسلب حياته مقابل أن يعيش القاتل حياة المقتول، وهكذا فالغرائز البشرية هي من تدفع إلى فعل ذلك.
التنمر جريمة قتل جديدة يكاد يغيب فيها الركن المادي الملموس، لكنها تامة مع وجود هذا النقص الضروري لاكتمالها ووقوعها
قد يكتسب القاتل لونه وصبغته ودمه البارد من البيئة التي يعيش فيها، أو من المحيط الذي يعيشه، بمعنى أنه يتدرب لا إراديًا على فعل الإجرام، وهذا إن جاز لنا القول إن نصطلح عليه "التنشئة اللاشعورية" على حبّ القتل، لا سيما إن الإنسان يولد خصبًا طريًا قابلًا لأن يستقبل ما تمنح إياه هذه التربة.
اقرأ/ي أيضًا: اليوم الصريح الذي لم يسمعه أحد
كلّ ما تقدم أعلاه يصب في حوض الجريمة المكتملة التي تتوفر فيها ركنا الجريمة، وهما الركن المادي والركن المعنوي، حيث استخدام الوسيلة أو الآلة وهي المادة، والذهنية القصدية وهو التخطيط والتدبير المسبق لإحداث الجرم معًا.
اليوم ونحن نشاهد تطور الحياة وسرعة الزمن، تقتلنا جرائم أخرى متطورة تخلو من الركن المادي وهو الأهم، أو أنه يكون فيها ضعيفًا، مسببًا فقط، كأن يكون لسانًا أو أصبعًا ينقر على زر التعليقات ليكتب تعليقًا قادحًا أو ذامًا فلانًا من الناس هازئًا به ساخرًا منه، ثم يعتاد الآخرون -أصحاب النقيق- على السخرية من المذموم؛ فيساهمون في الذم قربة للذام، فغالبًا يكون الذام من أصحاب الشهرة الإعلامية أو الصفحات الإلكترونية، وهذه هي البرمجة اللاشعورية التي برمجت عقول القادحين (المتنمرين) وبما أن الإنسان لا قدرة له على تحمل الأذى الجَمّ والسخرية البالغة التي تمس الشعور والإحساس والكرامة فإنه من المحتمل أن ينتحر أو يموت من ضراوة الوجع.
التنمر جريمة قتل جديدة يكاد يغيب فيها الركن المادي الملموس، لكنها تامة مع وجود هذا النقص الضروري لاكتمالها ووقوعها. وهذه ظاهرة ليست بالحديثة، بل نستطيع القول إنّها ظاهرة جديدة؛ فقديمًا كان بعض من العرب يتبجح بها ويُطرب لسماعها، وأحيانًا تُغنى إذا ما استحوذت على ذائقة الحاكم. ولدينا شواهد كثيرة وعينات من العيار الثقيل، من مثل شعر النقائض والهجاء.
باتت هجمات التنمر الإلكتروني تتسبب في الموت لبعض الناس، وذلك نتيجة كم الأذى الذي يصب عليهم ولا طاقة لهم باحتماله
وهنا لا بد لنا من ذكر الشاعر الحطيئة الذي لم يسلم أبوه وأمه وزوجته بل ولم تسلم نفسه من نفسه، فقال ذات يوم ذامًا زوجته متنمرًا عليها:
لها جسمُ برغوثٍ وساقُ بعوضةٍ
ووجهٌ كوجهِ القردِ بل هو أقبحُ
تبرُقُ عيناها إذا ما رأيتها
وتعبسُ في وجه الجليس وتكلحُ
لها مضحك كَالْحَشِّ تحسبُ أنّها
إذا ضحِكت في أوْجه الناس تسلحُ
إذا عاين الشيطان صورةَ
وجهها تعوّذ منها حين يُمسي ويُصبحُ
اقرأ/ي أيضًا: تجانس: إبادة
وقال في حق نفسه بعدما كَلَّ من البحث عن شخص تخلو مشاعره من خدوش أبياته:
أَبَتْ شفتاي اليومَ إلا تكلُّمًا
بسوءٍ فما أدري لمن أنا قائلُهُ؟
أرى لي وجهًا قَبَّحَ اللَّهُ خَلْقَهُ
فَقُبِّحَ من وجهٍ وقُبِّحَ حاملُهُ
كان الشعراء المتنمرون كثرًا، وأشهرهم شعراء النقائض، يحكى أن الأخطل كانت تلقّبه أمه "دوبل"، والذي يعني الحمار الصغير، وقيل ولد الخنزير أيضًا، وقد استغل جرير هذا اللقب مستخدمًا إياه سلاحًا ضد صاحبه
فهجاه قائلًا:
بكى دوبل لا يرقئ الله دمعه
ألا إنما يبكي من الذل دوبل
سبّب التنمرُ في العراق -وفق ما روي- نوبة قلبية لأحد الشعراء الذين يكتبون في اللغة المحكية فمات أثرها، وكان قبل أيام من موته قد طلب من مستخدمي التواصل الاجتماعي -ممن مارسوا التنمر في حقه- الكف عن إيذائه فقد كان يتألم كثيرًا إزاء تنمرهم.
أشار إعلاميون وأدباء وفنانون وممثلون، عبر صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي، إلى أن الشاعر كان ضحية "للهجمة التنمرية".
إنه الموت الجديد، القتل الجديد، إنها جريمة القتل الجديدة بسلاح جديد. يبدو أن الإنسان لا يكف عن ابتكار طرائق جديدة للقتل.
اقرأ/ي أيضًا: