12-أبريل-2018

تصميم بنان شكارنة

تأثّرت الفلسفة العربية الإسلامية بفلسفة الإغريق، ونسج الفلاسفة على منوال أفلاطون وأرسطو وأفلوطين. في هذه السلسلة من المقالات، سوف نتناول الكنديّ والفارابي وابن سينا وابن رشد، والغزالي وابن خلدون، حيث نخصّص حلقة خاصّة لكلّ منهم، نقف فيها على حياته وأفكاره وأعماله، ملاحقين مرحلة الإنتاج الفلسفيّ التي بدأت في القرن التاسع للميلاد، التي تلت حقبة طويلة تميّزت بالنّقل.

حلقة اليوم، وهي الأخيرة في سلسلة "في صحبة فلاسفة الإسلام"، مخصصة لابن خلدون.


ولد أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن خلدون (1332 – 1406) في تونس لأسرة مثقفة ثقافة إسلامية. تلقى دروسه في تونس ثم في مدرسة غرناطة، ولما عاد إلى مسقط رأسه عمل في بلاد الدولة الحفصية، وخلال خمسة عشر عامًا من العمل السياسي شهد تقلبات عديدة، سجن خلالها لعامين، إلى أن اضطره صراع الحفصيين والمرينيين إلى المغادرة إلى الجزائر، حيث كتب "المقدمة" الشهيرة كمدخل لكتابه التاريخي الكبير "كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر".

حين أراد ابن خلدون أن يفهم ما يجري من أحداث حوله، وجد نفسه يبحث في التاريخ ليضع الإحداثيات في سياق زماني ومكاني، فكان التاريخ طريقته للإجابة على الأسئلة التي تشغل فكره. درس الحضارة الإنسانية من جميع جوانبها، حيث تناول نمو السكان ونظرية التغيرات الحضارية وعلاقتها بالظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، إلى جانب الاهتمام بتصنيف السكان وتوزيعهم الجغرافي والعوامل الطبيعية المؤثرة في البشر في ذلك، أفرد ابن خلدون في مقدمته بابًا لعلم التاريخ، معتبرًا إياه أحد الفنون الجديرة العناية، وقد صب جهده على تعريف التاريخ وتوضيح قواعده ونقد المؤرخين السابقين له. ورأى أن للتاريخ ظاهرًا وباطنًا، ففي ظاهرة يبدو أخبار الأيام والدول، أما في باطنه فأسرار تحتاج الى من يكشفها، وهكذا راح يستنبط قواعد علم التاريخ، من خلال ربطها بالعوامل الاجتماعية والاقتصادية.

قد يكون السبب في اتجاهه ذلك هو أنه نشأ في عصر ضعف سياسي، حيث بدأت قوة العرب بالتراجع والتفكك في بلاد الأندلس، وكانت الحروب تعم شمال أفريقيا، وفي المشرق اجتاح تيمورلنك بلاد الشام.

تقول مادة "ابن خلدون" في "معجم الفلاسفة" لجورج طرابيشي: "لقد وجد فكر ابن خلدون في تلك الحياة المضطربة التي عاشتها بلدان المغرب الممزّق بالصراعات السياسية والمجتاح بالطاعون مادة للتحليل الثاقب للتطور التاريخي للإسلام. ولكن لم يكن غرضه الوحيد تنهيج معرفة الماضي، فقد كان يريد، كرجل عركته الأحداث وتأرّمَ شوقه إلى إصلاح المجتمع، أن يكون النقد الناجع والواقعي للماضي ضوءًا يبدّد ظلمات عالم الإسلام الوسيطيّ المأزوم".

يقول في المقدمة: "ولمّا طالعت كتب القوم، وسبرت غور الأمس واليوم، نبّهت عين القريحة من سنة الغفلة والنّوم. وسمت التّصنيف من نفسي وأنا المفلس أحسن السّوم، فأنشأت في التّاريخ كتابًا. رفعت به عن أحوال النّاشئة من الأجيال حجابًا: وفصّلته في الأخبار والاعتبار بابًا بابًا، وأبديت فيه لأوّليّة الدّول والعمران عللًا وأسبابًا. وبنيته على أخبار الأمم الّذين عمّروا المغرب في هذه الأعصار، وملأوا أكناف الضّواحي منه والأمصار، وما كان لهم من الدّول الطّوال أو القصار، ومن سلف لهم من الملوك والأنصار، وهما العرب والبربر، إذ هما الجيلان اللّذان عرف بالمغرب مأواهما وطال فيه على الأحقاب مثواهما، حتّى لا يكاد يتصوّر فيه ما عداهما، ولا يعرف أهله من أجيال الآدميّين سواهما، فهذّبت مناحيه تهذيبًا، وقرّبته لأفهام العلماء والخاصّة تقريبًا، وسلكت في ترتيبه وتبويبه مسلكا غريبًا، واخترعته من بين المناحي مذهبًا عجيبًا، وطريقة مبتدعة وأسلوبًا. وشرحت فيه من أحوال العمران والتّمدّن وما يعرض في الاجتماع الإنسانيّ من العوارض الذّاتيّة ما يمتّعك بعلل الكوائن وأسبابها، ويعرّفك كيف دخل أهل الدّول من أبوابها، حتّى تنزع من التّقليد يدك، وتقف على أحوال ما قبلك من الأيّام والأجيال وما بعدك ورتّبته على مقدّمة وثلاثة كتب". وفعلًا توقّف ابن خلدون في تأمله في الماضي عند "الواقعة السوسيولوجية بوصفها بنية جدلية أساسية للتاريخ، ليعيد عقد الصلة في التيارات التاريخية بين السياسة والاقتصاد والثقافة".

حلل ابن خلدون مجتمعات شمال أفريقيا من منظور يراها وحدة منتجة للسلع والثقافة، بين المجتمع البدوي والمجتمع الحضري.

كما تطرّق إلى مشكلات سيادة الدولة وهرمية السلطة المركزية، ودرس عملية إنتاج الثروات ومراكمتها، وحلّل المهن والعلوم، وأكّد على "قيمة العمل"، الأمر الذي حدا بالكثيرين إلى اعتباره رائد المادية التاريخية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ركن الورّاقين: في صحبة فلاسفة الإسلام (الغزالي)‎

ركن الورّاقين: في صحبة فلاسفة الإسلام (الفارابي 2)‎