16-أغسطس-2021

الانسحاب الأمريكي كان ضرورة حتمية تأخر إنجازها (USIP)

يجادل الصحفي الأمريكي المخضرم وأستاذ العلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز، ديفيد روثكوبف، في هذا المقال المترجم بتصرف عن موقع "ذا ديلي بيست" بأن الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن قد أوقف فضيحة أمريكية مستمرة بقراره الانسحاب الكامل من أفغانستان، على الرغم من حالة الفوضى والانهيار التام التي شهدتها البلاد في غضون الأيام الماضية، وسيطرة حركة طالبان على زمام الحكم من جديد، بعد عشرين عامًا على حربٍ دمويّة هي الأطول والأعلى تكلفة في تاريخ الولايات المتحدة. 


قندهار، من حواضر أفغانستان العريقة التي سيطرت عليها حركة طالبان خلال أيام. يُقال إنها تحمل اسم الإسكندر الأكبر، الذي وصف أرض أفغانستان يومًا بأنها "سهلة المدخل، عصيّة المخرج". هيرات، مدينة عظيمة أخرى سقطت بيد طالبان، كانت فيما مضى عاصمة لدولة تيمورلنك، سلطان التتار، والذي بسط ملكه على جوهرة إمبراطوريته في هيرات، إحدى أبرز العواصم الثقافية التي عرفها العالم.

كان بين يدي القادة الأمريكيين وسواهم 3000 عام من التاريخ امتلأت بالنذُر والتحذيرات والتجارب السابقة الفاشلة في أفغانستان، لكنهم أصروا على تكرار الفشل

ثمة لوحة مشهورة، "بقايا جيش"، باتت اليوم تُستدعى للتذكير بالتكلفة الباهظة للتدخل الأجنبي في أفغانستان، يظهر فيها رجل منهك على فرس متهالك يكاد لا يحمله، وهو على أبواب جلال أباد. كان هذا ويليام برايدون، الطبيب المجنّد والناجي الوحيد من جيش بلغ تعداده 16 ألف رجلًا، والذي هزم شرّ هزيمة في الغزو الإنجليزي الأول لأفغانستان، في كانون الثاني/يناير 1842. رسمت إليزابيث طومسون، المعروفة باسم "السيدة بتلر"، هذه اللوحة عام 1879، أي خلال محاولة الغزو الثانية، والتي تبعتها فيما بعد حرب ثالثة قصيرة عام 1919 انتهت إلى ما آلت إليه سابقاتها. 

"بقايا جيش" للفنانة الانجليزية إليزابيث طومسون (ويكيبيديا)

لكن لعلّه بات من المكرور والمستهلك اليوم، حتى عند استعادة السياق التاريخي الأوسع للوضع الراهن، القول بأن تدخلات القوى الأجنبية في أفغانستان لطالما اصطدمت بالكثير من العثرات، وغالبًا ما انتهت على نحو مريع للغزاة. فالقائمة مزدحمة بمن أتوا ورحلوا، بعد أن تعضّل عليهم إدراك طبيعة ما ينتظرهم في تلك الأرض الوعرة وساكنتها بقبائلهم الكبيرة المتنازعة، والورطة الكبيرة التي تنتظر هذا الزائر الغريب لو فكّر بالبقاء. والقائمة تضمّ الفرس واليونان والعرب والمغول والسيخ والإنجليز والسوفيات، ونحن، وقادتنا الأمريكيين الذين ستلاحقهم خيبة التاريخ، كما لاحقت من قبلهم.

كان بين يدي القادة الأمريكيين وسواهم 3000 عام من التاريخ امتلأت بالنذُر والتحذيرات والتجارب السابقة الفاشلة في أفغانستان، لكنهم أصروا على تكرار الفشل

حين وجّه جورش بوش الابن القوات الأمريكية إلى أفغانستان بعد أقل من شهر على هجمات 11 سبتمبر عام 2001، فإنه لم يخالف التصرّف المتوقّع من أي رئيس آخر في مكانه، وكان هدفه المعلن هو ملاحقة من ارتكبوا تلك الهجمات ومن يستضيفهم. إلا أنّ تلك الخطوة لم تلبث حتى تبعتها سلسلة من الأخطاء التي ذكّرت بأخطاء الغزاة السابقين، وشكّلت حكاية تحذيرية جديدة، أكثر وضوحًا ومباشرة من اللوحة التي خلفتها لنا السيدة بتلر عن الغزو البريطاني لأفغانستان.

ومن المهمّ فهم ما جرى الآن، بعد أن تجلّى للجميع حجم الفشل الأمريكي المركّب في أفغانستان، وذلك لأن ثمّة من يرغب اليوم في إلقاء اللوم على عاتق الرئيس الحالي جو بايدن، مع أن الكارثة التي حلّت اليوم في تلك البلاد الحبيسة تمثّل ذروة الفشل المتكرّر على مدى تاريخي طويل، وعقودًا من القرارات الكارثية التي اقترفها القادة الأمريكيون من السياسيين والعسكريين على السواء، من عهد جيمي كارتر وحتى دونالد ترامب. 

تخبّط أمريكي منذ عام 1979 

الأخطاء الأمريكية في أفغانستان تسبق 11 سبتمبر بكثير، لأنها قد بدأت عام 1979، حين بدأت الإدارة الأمريكية بالتدخل لصالح المجاهدين الأفغان ودعمهم ضدّ الغزو السوفيتي، على أمل هزيمته ودحره من أرضهم. وحين نتحدث عن المجاهدين، فإننا نقصد جماعات عديدة وقبائل متباينة، بعضها يرتبط بنشوء القاعدة، وبعضها الآخر شكّل الحاضنة المبكّرة لما سيعرف لاحقًا باسم "طالبان" بعد عقد ونصف تقريبًا، والتي كانت الملاذ لأسامة بن لادن وغيره. سوء التقدير في تلك الفترة لم يقتصر على الأمريكيين، فالدعم الذي حصلت عليه طالبان تدفق من باكستان على مدى سنوات عديدة، ومن السعوديين أيضًا، الذين لا يخفى على أحد دورهم في تقديم التمويل للمجاهدين في أفغانستان.

اقرأ/ي أيضًا: تقرير يفضح جرائم وحشية ارتكبها الجيش الأسترالي في أفغانستان

تحوّلت أفغانستان إلى "فيتنام" السوفييت، وعقب الهزيمة التي لحقت بهم هناك، اندلعت الفوضى السياسية بين الفصائل الأفغانية المتنافسة، وهو ما أدى في منتصف التسعينات إلى نزعة لدى أشدّ الجماعات تطرفًا ونفوذًا إلى فرض سيطرتها ونموذجها المتطرّف من الشريعة الإسلامية، الذي ادّعت أنه السبيل الوحيد لإنقاذ البلاد، وتم ذلك تحت قيادة الملا محمد عمر، الذي قاد حركة طالبان وحشد لها الآلاف من المقاتلين والأنصار منذ بداية التسعينات. وبين منتصف العام 1994 وحتى أيلول/سبتمبر 1996، سيطرت الحركة على أفغانستان بعد سلسلة من الانتصارات المتتالية، في مشاهد غير بعيدة عن تلك التي رأيناها خلال الأسبوع الماضي عقب الانسحاب الأمريكي. كانت طالبان جماعة متطرّفة، وصلبة، ولم تحتمل أن ينازعها في الحكم أحد، إلا ما اضطرت على القبول به من موجود جماعات أخرى متطرفة أخرى في النسيج المسيطر القائم. هذا التنازل ستدفع طالبان ثمنه المرّ لاحقًا، حين تهاجم القاعدة الولايات المتحدة في 11 سبتمبر 2001، ليأتي الردّ السريع في أوائل تشرين الأول/أكتوبر من ذلك العام، بقصف عنيف لمعاقل طالبان والقاعدة معًا. عندها أخذت الأمور منحى متصاعدًا من التفاقم وسوء التقدير.

رامسفيلد وبوش عام 2019 (Getty)

فلم تلبث الولايات المتحدة أن دخلت أفغانستان حتى بدأ نائب الرئيس الأمريكي، ديك تشيني، ووزير الدفاع دونالد رمسفيلد، بأز البيت الأبيض والرأي العام الأمريكي لغزو العراق، وهي الدولة التي لا ناقة لها ولا جمل بهجمات 11 سبتمبر. تلك الحرب الجديدة في العراق ستكون كارثة حتميّة بذاتها، إلا أنّها في الوقت ذاته استنزفت مؤسسات صنع القرار الأمريكية ومواردها وشتّت تركيزها بعيدًا عن أفغانستان.

اقرأ/ي أيضًا: دونالد رمفسيلد.. العقل المدبر لحرب أفغانستان وغزو العراق

في الوقت ذاته، ورغم الادّعاء الشائن لبوش بأن "المهمة انتهت" في ربيع العام 2003، تحوّل الغزو الأمريكي لأفغانستان تدريجيًا إلى مشروع طويل المدى لملاحقة جميع المتطرفين، وإعادة بناء مؤسسات الدولة بالشكل الذي يضمن ترسيخ السلام فيها، حتى لو نجحت طالبان في لملمة ذاتها من جديد. وهكذا أثار البقاء الأمريكي الذي طال هناك رد الفعل ذاته الذي نشأ لدى الأفغان إزاء السوفييت (والعديد من الغزاة قبلهم). ومع نهاية العام 2004، أعلن الملا عمر رسميًا عن انخراط طالبان في العمليات العسكرية التي تهدف إلى طرد الأمريكيين من أفغانستان.

وعلى الرغم من العمليات العسكرية المكثفة، تضاعف الزخم الذي تحوزه طالبان، ولم تحقق الإستراتيجيات العسكرية للجيش الأمريكي سوى مكتسبات صغيرة وعابرة. أما الجهود المبذولة على صعيد بناء المؤسسات المحلية وتدريب قوات الأمن والجيش من الأفغان، لم تؤتِ أكلها هي الأخرى، وكانت نتائجها غير مقنعة إلى حد كبير. وهكذا تواصلت الحرب بلا أي جدوى، حتى بلغت تكلفتها أكثر من تريليون دولار أمريكي، وآلاف الأرواح.

مع قدوم باراك أوباما رئيسًا جديدًا في البيت الأبيض، طلب تقريرًا يقيّم حالة الحرب في أفغانستان، استغرق إعداده تسعة أشهر. في خلاصة التقرير، دعا مسؤولون في الإدارة الأمريكية، من بينهم جو بايدن، الذي كان نائب الرئيس آنذاك، إلى وضع خطة لإنهاء الحرب والانسحاب من أفغانستان. إلا أن آخرين، من بينهم أوباما نفسه، رأوا ضرورة تعزيز القوّات الموجودة هناك. في العام 2011، حظيت الولايات المتحدة بلحظة "إنجاز" حقيقية، وذلك بمقتل أسامة بن لادن، والذي لم يكن حينها أصلًا في أفغانستان، حيث تواصلت الحرب مجددًا، وبلا جدوى.

أسامة بن لادن (Getty)

ثمة أصوات عديدة داخل إدارة أوباما أبدت قناعة بضرورة الانسحاب من أفغانستان، إلا أنّهم خشوا في الوقت ذاته بأن يتسبب ذلك بعودة سريعة لسيطرة طالبان. ثم أتى دونالد ترامب، والذي تعهّد بإنهاء الحرب هناك، إلا أنه أجّل اتخاذ قرار نهائي بشأن ذلك، بنصيحة من القادة العسكريين الذين حذروا من انهيار حتمي في حال سحب جميع القوات. كان البديل المطروح الدخول في مفاوضات مع طالبان، رغم عدم وجود أي ضامن لالتزام طالبان بأي اتفاق مع الجانب الأمريكي، بل كانت معظم المؤشرات تدل على خلاف ذلك. إلا أنّ ذلك لم يمنع ترامب من الإعلان عن موعد محدد لسحب القوات الأمريكية من أفغانستان، في أيار/مايو 2021، وهو تعهد ستنتقل عهدته إلى خلفه، جو بايدن.

حلّ بايدن رئيسًا جديدًا في البيت الأبيض، فأعلن عن تأخير موعد الانسحاب، واعترف بما يلزم الاعتراف به، مشيرًا إلى أنّه لم يعد للولايات المتحدة أية مصلحة ملحّة تدفع لبقاء القوات الأمريكية فيها بشكل دائم، بخلاف الحال في ألمانيا (لدعم الناتو وخلق توازن أمام روسيا)، أو في كوريا (لمواجهة التهديد من كوريا الشمالية). كما أن جهود دعم الحكومة المركزية في كابول وإعادة تدريب الجيش الأفغاني لم تحقق أي نتائج تذكر. فالجماعات الإرهابية توزّعت وظهرت في أجزاء أخرى من العالم، كما توفّر بين يدي بايدن 20 عامًا من الأدلة التي تؤكّد على أن الوجود الأمريكي في أفغانستان لا يملك أي فرصة لتحقيق الاستقرار الذي يضمن، في حال الانسحاب، أن لا تؤول الأمور مجددًا وعلى نحو خاطف، إلى طالبان.

وهكذا أقدم بايدن على ما تورّع من سبقوه عن القيام به، فاتخذ القرار الصعب بالانسحاب، وهو يدرك بأن الانهيار السياسي حتمي، وأنّ مغبّة ذلك ستقع عليه وعلى إدارته، لكنّه يدرك في الوقت ذاته أن اللوم من خصومه سيلاحقه على الحالتين، سواء قرّر البقاء في أفغانستان أو الانسحاب منها. الحقيقة هي أنّه لم يعد يتوفّر لدى أي إدارة أمريكية أي خيارات بديلة مقترحة. فالانسحاب، من وجهة نظر بايدن وإدارته، يعني على الأقل الحدّ من النفقات المالية الضخمة للوجود الأمريكي في أفغانستان، إضافة إلى قناعة الإدارة الجديدة بأن الحل العسكري لن يكون هو السبيل لتحقيق الأهداف طويلة المدى في تلك البلاد، وأن ذلك لا بدّ أن يتمّ عبر سبل دبلوماسية وبالتعاون مع المنظمات والهيئات الدولية.

ربما كان يجدر بإدارة بايدن الانسحاب بشكل أفضل مما تمّ عليه، بالإبقاء ربما على القاعدة الجوية في باغرام إلى أن يتم إخلاء كافة الرعايا الأمريكيين والأجانب بشكل سلس وهادئ بعيدًا عن الفوضى العارمة التي حصلت، وضمان أمن وسلامة الأفراد الأفغان الذي عملوا مع القوات الأمريكية في مهام مختلفة، كالمترجمين والمعاونين وأسرهم. لكن الحقيقة هي أن طالبان قد كانت تنتظر هذه اللحظة كي تنتهزها على أحسن وجه يتيح لها بسط سيطرتها الخاطفة على البلاد، وفرض حكمها من دون تأخير، والاستثمار في المشهديّة الرمزيّة لأداء قواتها والتنسيق فيما بينهم في مختلف الولايات، وضمان إحراج الحكومة الأمريكية ونزع الشرعية عن حلفائها المحليين.

كل رئيس أمريكي سابق، من كارتر وحتى ترامب، يتحمّل قسطًا مباشرًا من المسؤولية عن التخبّط في السياسة الأمريكية التي اتبعت في أفغانستان

الانسحاب الأمريكي خطوة بالاتجاه الصحيح، بالرغم من تعثّر عمليات الإخلاء والانسحاب، التي يتحمّل الرئيس الأمريكي الحالي وإدارته مسؤولية مباشرة عنها، لكن بايدن سيرفع عن نفسه على الأقل المسؤولية المباشرة عن استمرار الفضيحة الأمريكية في حربها الأطول والأعلى تكلفة في تاريخها، تمامًا كما رفض جيرالد فورد استمرار التخبّط الأمريكي في فيتنام، فأعلن الانسحاب منها، رغم الحرج الذي ألحقته بإدارته صورة تلك الطوافة الأمريكية الأخيرة قبل أن تغادر من على سطح السفارة في سايغون، في 30 نيسان/أبريل 1975.

السفارة الأمريكية، سايغون، إبان الانسحاب الأمريكي عام 1975 (Getty)

 

اقرأ/ي أيضًا: 

تعليق كافة الرحلات الجويّة التجارية من مطار كابول

كيف علّق ترامب على دخول طالبان إلى كابول وإعلانها السيطرة على أفغانستان؟