04-أبريل-2016

غرافيتي لـ سيمون بوليفار في فنزويلا

يسرد الكاتب النيجيري تشينوا أتشيبي في روايته "كثبان نمل السافانا Anthills of the Savannah" حكاية عن "نمرٍ أمضى زمنًا وهو يتحيَّن فرصة اصطياد سلحفاة حتى وقع على إحداها في أحد الدروب المنعزلة. فبادرها بصيحة الظافر آآها أخيرًا، استعدي للموت!

أوباما يأتي محدِّثًا الكوبيين عن حرية التعبير والنقاش الحر للأفكار! مع أن مناقشة بعض الأفكار في بلده تكاد تكون معدومة

قالت له السلحفاة: هلّا أجبت لي طلبًا واحدًا قبل أن تقتلني؟ لم يخشَ النمر أذى من طلبها فوافق على الفور. لكن بدلًا من أن تجمد السلحفاة ساكنة في مكانها كما كان يعتقد، أخذت تقوم بحركات غريبة على الدرب، تخدش الأرض بيديها تارة وبرجليها تارة أخرى ناثرةً التراب بعصبية في جميع الاتجاهات. مما دفع النمر المحتار لسؤالها ماذا تفعلين؟ فأجابته السلحفاة: بعد موتي أريد أن يقول كل من يعبر هذا الدرب: نعم! هنا دارت معركة بين ندَّين".

اقرأ/ي أيضًا: الأدب والانتحار.. حل وحيد ممكن

يرمي الكاتب من سرد هذه الحكاية إلى أنّ التحكم بمسار الحدث التاريخي أهم من السياسة. حيث يوجد دومًا، برأيه، مَن يندفع بحماسة لخوض المعركة كما يوجد مَن يروي الحكاية لاحقًا. ويعتقد بعض الناس أنه من السهل التحكم بمسار الحدث! "أولئك هم الحمقى" يقول أتشيبي.

لا تقاتل السلحفاة من أجل بقائها. وهي في كافة الأحوال أو في الأحوال المعتادة على الأقل، ليست ندًا لنمر. إنها تشكِّل الحالة، تثير التساؤل. وعندما تُطرَح الأسئلة تغدو الحكاية ممكنة. تصبح قابلة للتصديق من حيث لم تكن معقولة سابقًا، لأنه لم يكن هناك حاجة لذلك.

قبل قرابة مائتي عام، أثار الشاب اليافع سيمون بوليفار الأسئلة، حول الحرية. ورغم أنه كان معجبًا بالفلاسفة الأوروبيين لكنه شكك بحكايتهم عن الحرية معلنًا من روما، في عام 1805، "أن حلّ المسألة الكبرى عن حرية الإنسان استعصى [على الأوروبيين]، وبقيت لغزًا لن ينجلي غموضه إلا في العالم الجديد".

عندما تُطرَح الأسئلة تغدو الحكاية ممكنة، تصبح قابلة للتصديق من حيث لم تكن معقولة سابقًا

هكذا حفر بوليفار أخاديده في التراب. ومنذ ذلك الوقت استمر اجتراح "الحركات الغريبة على الدروب" دون تسجيل انتصار حقيقي، ليس بعد. لكن استمر بروز الأسئلة عبر الزمن، بقوة تنامي الحاجة لها أكثر فأكثر. وأوباما يأتي محدِّثًا الكوبيين عن حرية التعبير والنقاش الحر للأفكار! مع أن مناقشة بعض الأفكار في بلده تكاد تكون معدومة، مثل تبعية حقوق الناس المدنية والسياسية وارتباطها بمستوى حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية!

اقرأ/ي أيضًا: في الشعر كما في القهوة

بوليفار فهم المسألة.

ومثله كان الفيلسوف البيروفي خوسيه كارلوس مارياتيكو معجبًا بالمبادئ الأوروبية ومشككًا بإمكانية أن يفتح "التداول والتصويت" الطريق إلى حرية حقيقية، لأن "الوعي الجماعي" لا يمكنه دعم هذا الشكل من الحرية. وألحّ على البوليفيين بـ "التفكير على الطريقة الأمريكانية اللاتينية". ومثل بوليفار أيضًا، كان يدرك أن هذه الطريقة تقتضي التحول الاقتصادي الاجتماعي والسياسي، بل والثورة.

فالمسألة لم تكن عن الحرية حصرًا. إنما عن المعرفة أيضًا: عن كيف تعرف، انسجامًا مع مستوى التطلعات الاجتماعية، أنها غير معقولة. الحرية كانت أمرًا غير قابل للتصديق، وكذلك كان ما أسماه المربي البرازيلي باولو فرير "الإنسانية الأصيلة". ولم يكن عن عبث أو مجرد تلقائية أنّ بيان مونتيكريستي، الذي أطلق حرب الاستقلال عن إسبانيا في عام 1895، قد أعلن أن هدف الحزب الثوري الكوبي نابع من "أصل الأفكار" الطبيعي، وبالتحديد، من كيفية معرفة ما هو "الإنساني".

ويبقى السؤال.

يُظهر فيلم "حتى المطر - Even the Rain" الحائز على جائزة مرموقة، عجز مناهضي الإمبريالية التقدميين وواسعي الاطلاع عن فهم الناس المتفاعلين معهم باعتبارهم كينونات إنسانية. وهو أمر يمكن أن يحدث مع أي منا. إنه ثمن محدودية المعرفة ومحدودية وسائل تلمُّس الإنساني في عالم يسوده تجريد الناس من الصفات الإنسانية.

 إذا نُزِعت صفة الكينونة الإنسانية عن فئة من الناس يمكننا استغلالهم دون أدنى شعور بالحرج

إذ تدور أحداث الفيلم حول كادر فني يقوم بتصوير فيلم ضعيف الميزانية عن كريستوف كولومبوس. يُبرز فيه الكادر شأن الراهبَين الدومينيكانيين أنتونيو مونتيسينو وبارثولومي دي لاكاساس، اللذين أدانا معاملة الإسبان لهنود الـ "تاينو". ففي عظاته الأسبوعية بكنيسته المبنية من القش، في عام 1511، كان مونتيسينو يكرر التساؤل "أليسوا بشرًا؟ أليسوا نفوسًا عاقلة أيضًا؟ ألستم مُلزمين بأن تحبوهم كما تحبون أنفسكم؟".

اقرأ/ي أيضًا: هل نقرأ التاريخ؟

ولكن رغم إعجاب منتجي الفيلم بمونتيسينو لا يشعرون بتأنيب الضمير حيال تصويرهم الفيلم مع هنود الـ كويتشوا بدلًا من هنود الـ تاينو! وكأن كل الهنود سواء! ولا يجدون حرجًا في دفع دولارين فقط أجر يوم عمل الممثل المحلي!

بل أكثر من ذلك، بينما تتزامن أحداث الفيلم (داخل الفيلم) مع اندلاع حروب مياه كوتشابامبا (عام 2000) حين أطلق البوليفيون الاحتجاجات ضد خصخصة المياه ومصادرها، كان يقود المظاهرات في بوليفيا دانييل الهندي الأصل والممثل الرئيسي في الفيلم (لاعب دور هاتوي، هندي التاينو المقاوم للاحتلال الإسباني في كوبا). ولكن أفراد طاقم الفيلم الأوروبيين العاجزين عن فهم دوافع دانييل كانوا يلحّون عليه كي يبتعد عن الاحتجاجات! وهو يرفض قائلًا "لا حياة لنا بدون ماء، أنتم لا تفهمون"!

في الواقع، إنهم لا يفهمون. وهو ما منح فيلم "حتى المطر" المصداقية وقوة التأثير. مع أن طاقم الفيلم كان يعرف ما هي الإمبريالية، مثلما كان يعرف التاريخ. إنما لدى الإمبريالية "منطق" وصفه جان بول سارتر في مقدمته لكتاب فرانتز فانون، معذّبو الأرض: إذا نُزِعت صفة الكينونة الإنسانية عن فئة من الناس يمكننا استغلالهم دون أدنى شعور بالحرج أو الضيق. دون معرفة.

نظر مارتي إلى اكتساب المعرفة باعتباره عملية تفاعل جدلي، حيث إننا نعيش في عالم السببية

ولأن بوليفار فهمها، تحدث عن ضرورة قيام حكومة مركزية متمكِّنة لمجابهة هذا المنطق بعملية تحوّل اجتماعي سياسي. وكذلك فهمها خوسيه مارتي، فهجَر الليبرالية فلسفيًا كما نبذها سياسيًا حين تلمّس العلاقة بين النظرة الغاوية المخدِّرة إلى الحرية وفقدان المعرفة المُوهِن المُهلك بطريقة تَناول الأوروبيين للحريات الفردية وحرية الخيار بمعزل عن إثارة الأسئلة حول كيف نعرف عن الأفراد الذين يتضررون من خياراتنا إذا كانوا خارج محيطنا رفاهيتنا المريح؟!

اقرأ/ي أيضًا: اغتيال سلمان رشدي على سرير طليقته!

ومثل ماركس، نظر مارتي إلى اكتساب المعرفة باعتباره عملية تفاعل جدلي، حيث إننا نعيش في عالم السببية، فلك ترابط الأسباب. فعندما نؤثّر في العالم، يؤثر العالم بنا. وبهذه الطريقة نكتشف ما كان مجهولًا من قبل، بما فيه اكتشاف الكائنات الإنسانية المختلفة عنا. وبنفس الوقت تتضمن السببية الجدلية التغيير، بما فيه تغيير الفرد ذاته.

لكن الأوروبيين اعتادوا رؤية الحرية باعتبارها تنبع من الداخل "الجُوّاني"، وكأن هذا الداخل ليس نتاجًا للخارج "البَرّاني". الرؤية التي وصفها لينين بالمشوشة، واعتبرها خوسيه مارتي غير علمية.

في فيلم حتى المطر، يتوصل المخرج الإسباني إلى فهم المسألة في النهاية، بفضل حميمية العلاقة التي تربطه بدانييل الهندي الأصل. بمعنى أنه بات يدرك الكينونة الإنسانية لأحدهم بالمقارنة مع نفسه. ولكن إدراكه للإنسانية المشتركة له ثمن لا مفر من دفعه بسبب "منطق" الإمبريالية الاجتياحي، فيتخلى عن مشروع إنتاج الفيلم بعد معرفته أن عنصرية كولومبوس تجاه السكان الأصليين ليست مجرد حكاية عن آخرين عاشوا في الماضي.

ومن جهته، اعتبر مارتي الليبرالية خطرًا على أمريكا اللاتينية لأنها تجاهلت علاقة تفكير الفرد بظروفه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية. فيما ماركس لم يصف الكائنات البشرية بأنها "قطيع" لأنها تعيش في مجتمعات وحسب، بل بسبب طريقة تفكيرها، وكون المفاهيم التي تحملها مرهونة بالمجتمع. الأمر الذي لا يثار حوله أي جدل في أوساط فلاسفة العلم المعاصرين. بل يتم تجاهله كلياً في الفلسفة السياسية (الليبرالية).

ليس ماركس إلا مثال عمن ساق حكاية مغايرة عن الحرية وعن كيفية المعرفة من بين فلاسفة وثوار آخرين تطرقوا لها في أوروبا

وهذا يعني أنه ليس بمقدورنا التوصل إلى حرية إنسانية حقيقية دون الاستغناء عن الأشياء. لأننا لن نتمكن من معرفة الإمكانية الإنسانية دون التحوّل والانتقال، على الأقل ليس إذا كانت هذه الإمكانية غير معروفة مسبقًا، لكونها مدمجة ضمن عالم لا عدالة في منظومته.

بيرتا كاسيريس قالت لبيفرلي بِل إن مشكلة الأمريكيين الشماليين تكمن في حبهم للراحة، وكتب بيفرلي أن بيرتا لم تفقد يومًا تواضعها! لكن المسألة لا تتعلق بالأخلاق، فحكماء فلاسفة الثقافات المختلفة تطرقوا إلى الرابط بين كيفية عيشنا وتصوراتنا عن أنفسنا وما بإمكاننا معرفته.

لقد التقط بعض الأوروبيين المسألة، وليس ماركس إلا مثال عمن ساق حكاية مغايرة عن الحرية وعن كيفية المعرفة من بين فلاسفة وثوار آخرين تطرقوا لها في أوروبا. وبالعودة إلى أتشيبي، ليس من السهل التحكم بمسار الحكاية. وربما لهذا السبب يسمونها في كوبا "المعركة" من أجل الأفكار. حيث الليبرالية الفلسفية حاضرة بقوة، إنما شديدةُ الإقناع تلك الأخاديد المحفورة في تراب الأرض، في أمريكا اللاتينية وخارجها. فهنا دارت معركة بين ندّ واجه ندّه، وما تزال تدور رحاها فعلياً. أحدٌ يخبر أوباما!

ترجمة عن اللإنجليزية: منذر سلام

اقرأ/ي أيضًا:

الفلسفة والأدب.. سردية حب معلن

المرأة والنص.. تاريخ التجاهل والتطور