11-يوليو-2017

الشاعر إياد شاهين (فيسبوك)

لم يكن إياد شاهين (مرّت ذكرى رحيله الرابعة أمس) بضحكته المجنونة إلا متمردًا فقيرًا على زمنه، وكانت خطواته المترنحة إحدى معجزات البقاء على قيد الحياة عنوة، ومن يعرفه سيصدق أن موته ليس مفاجئًا أبدًا... كان موته آخر سخرية اقترفها وهو يدندن نقائضه المباغتة.

"كورتاج" ديوان وحيد ويتيم، طبعه إياد شاهين في بيروت ووزعه دون إهداء

في الجامعة، كانت كتلة الفقر تجلس بيننا عابثة بكل العابرين، بالوجوه والأرداف والكلمات، وكانت حكايات إياد شاهين تنتشلنا نحن القادمين من أطراف العاصمة من وهم جبروتنا في انتزاع مكان لنا في هذا العالم البشع الذي يسمى دمشق، بالرغم من كل الفتنة والعشق، ولكنها حقيقة العابثين حينها الذين كانوا يراهنون على حقهم في الابداع... كان أمل دنقل أحدنا يلملم بقايا السجائر المرمية من افواه الآخرين، وإياد شاهين بيننا أيضًا يبحث عن أي بنطال معلق على مشجب يرتديه ويمضي، ووسط كل هذا الصخب البشري يخرج إياد أصابع قدميه من جوارب ممزقة هازئًا بالمدينة وتاريخها.

اقرأ/ي أيضًا: عبد العظيم فنجان.. كمشة سرد

في نفق كلية الآداب مرر إياد شاهين حكاياته الأولى الساخرة، وقصائده على أسماعنا... الطالب الهارب من كلية طب الأسنان إلى حيث يتسكع طلاب الصحافة والآداب بين فتيات هائمات بالشعراء الثرثارين، وحفظة القصائد الممنوعة، وكاسيتات مظفر النواب، ومحرمات بوعلي ياسين في الدين والجنس والسياسة.

لم يكن بين هؤلاء من يحلم بإصدار ديوان شعر، أو نشر قصيدة في جريدة، كان الهيام أعلى من أولئك المعتلين منابر القصيدة والجريدة، وكان سيل الانتقاد يطال كل أسماء الصف الأول حتى تم الطلاق، وبدأت حياة جديدة في البحث عن معنى آخر للصدمة والتعبير، فكان "كورتاج" أول ديوان اليتم الذي طبعه إياد شاهين في بيروت، ووزّعه كما يوزع ضحكاته العالية المعتوهة دون إهداء وتوقيع.

"إلى من يهمه الأمر"، كأنها شكوى إلى أحد يستطيع إعادة ترتيب الأشياء أو بعثرتها لا يهم... إهداء مريب وغريب أولى صفحات الديوان، ومن ثم يبدأ الهذيان المدهش، وتوزيع غير معدّ لأسئلة الموت والحياة وأشيائنا الصغيرة والشموع والخيانة والصمت.

حتى هذه الأمنية كانت إجابة خرقاء عم تدبره الأيام:

ماذا تريد أن تصبح في المستقبل

أريد أن أصبح عجوزًا (ص 84)‏

لكن الحقيقة التي يدركها إياد شاهين هي الحفرة:

دنوت من حفرة السور

كل ما أذكره

 قال مر من تحتي

 حفرت

 فصار شاهدتي (ص40)‏

كان إياد شاهين يقرؤنا ويعرينا في آن واحد عندما اختار أن يمدّ مقياسه على حياتنا... كل الأشياء متساوية، والمعاني أيضًا:

في بلد النعام

الصمت يقتل كالكلام.

في "كورتاج"، كانت المفردات تتصادم يطيح بعضها ألآخر كي تخرج العبارة التي لا تقوى على الكلام.. العبارة التي تختصر أوجاعنا وجنوننا:

آخر ما توقعه الشارع

هو أن تصدمه الحافلة (ص171).

 ثم ينسف ما كنا نظن ونعتقد، وما كنا نراه هائلًا ومغايرًا، ما كنا نعتقد بإمكانية تحققه ببعض الصياح والهمس:

ظن الخيط بعد خروجه من الإبرة

أنه هو الذي ثقبها (ص158)‏

ثم تأتي النبوءات، والدهشة، وغرقانا، وقبورنا، وموتنا على هيئة عبارات تطارد بعضها، وقصائد بعشر كلمات، وواقع حد الغرابة والقرف:

البحر مالح لأن الغرقى ما زالوا يبكون

أما رموز المدينة التاريخ فقد ماتت من قلبها من حيث تعتقد أنه مجدها وقوتها:

أين بردى

مات من العطش (ص129)‏

مات إياد شاهين مرتاحًا من رؤيتنا هكذا على تيهنا الذي اختارته رؤوسنا المحشوة بالجثث والأسلحة والخونة والكفر والكراهية.. هكذا رآنا:

المظلات تمنعنا من الاقتراب

 أكثر من بعضنا

 وكذلك القبعات والأكتاف

 وأخيرًا رؤوسنا (ص132)‏

في حياة إياد شاهين خصوصية ابن الجولان النازح الذي حمل فقره وعناده وأكذوبته في العودة

في حياة إياد شاهين خصوصية ابن الجولان النازح الذي حمل فقره وعناده وأكذوبته في العودة، لكنه بعد أن فقد وطنه "الجولان" بقي معلقًا بهاجس وحيد أوديبي، وهوس ممتد حتى نهاية الوجع:

منذ متى أبكي

فلا تنهض أمي من موتها

 كي تهز البلاد (ص63)‏

اقرأ/ي أيضًا: "كان نائمًا حين قامت الثورة".. ما لن يقرأه السيسي

أقرأ ديوان "كورتاج" عليكم كي أمرر بعضًا من روح إياد شهاين وأرواحنا نحن جيله الذي مات، وإذ أكتب أعرف أنني لا أرثيه بل ربما أرثي نفسي، وديوان اليتم هو ديواننا الذي لم ينصف في زحمة الرصاص والموتى الذين أطبقوا على كل الأحلام، وكذلك اللصوص والخونة، وتصدمنا نبوءة إياد شاهين:

يعود الجنود كي يجدوا إخوة أبنائهم (ص 211)‏

في 10 تموز/ يوليو 2013، مات إياد شاهين كما يجب أن يموت، وحتى موته المشتهى كان حاضرًا في الحرب التي تطحن بلادًا بحالها... بلادًا مجنونة وبشعة وجميلة عميقة وضحلة... كان يقرأ الشعر والخمر واللغة والبلاد ونحن... نحن الذين صفعنا على أقفيتنا ورؤوسنا... ومات.

 

اقرأ/ي أيضًا:

نوبل بوب ديلان.. إعادة تعريف الأدب

أولاد أحمد.. تونس التي تعلّم الثورة