15-مايو-2022
(Getty) جنازة شيرين ابو عاقلة

(Getty) جنازة شيرين ابو عاقلة

شاهد العالم أجمع حجم العنف والوحشية اللذيْن تعاطت معهما قوات الاحتلال الإسرائيلية مع جنازة الصحافية الشهيدة شيرين أبو عاقلة، حيثُ قامت شرطته بضرب حاملي النعش بالهراوات، كما قامت بمحاولة انتزاع الأعلام الفلسطينية التي كانت تُغطي نعش الشهيدة، وفي شهادتها حول هذا الاعتداء الوحشي على جنازة الشهيدة شيرين قالت زميلتها جيفارا البديري في تقرير بثته قناة الجزيرة بأنّ قوات الاحتلال كانت قد أطلقت تحذيراتها بأنّ نعش شيرين لن يخرج من المستشفى الفرنسي قبلَ إنزال كلّ الأعلام الفلسطينية التي تُغطيه.

سياسة الاحتلال في منع رفع العلم الفلسطيني، والتي اختلفت ظروفها وسياقاتها في المراحل الفلسطينية المختلفة، كانت تُجابه من قِبَل الفلسطينيين في كلّ مرة بالرفض والتمرّد

وقد قادني مشهد تلكَ الاستماتة التي أبدتها شرطة الاحتلال في انتزاع العلم الفلسطيني من على نعش شيرين، ومحاولتها عبر استخدام العنف والقمع منع المشيعين من رفعه؛ قادني ذلك المشهد إلى التفكير في ظاهرة منع رفع العلَم الفلسطيني والتي لها جذور تعود إلى ما قبل جنازة شيرين بكثير، فطالما كان رفع منع العلم الفلسطيني سياسة احتلالية استعمارية استخدمها الاحتلال الإسرائيلي في إطار صراعه مع الفلسطينيين كجزء من سياسة إحلالية عامة القصد منها محوهم وإلغائهم –باعتبارهم سكانًا أصليين- عبر محاولة القضاء على أي رمز وأثر هوياتي يأتي ليُدلّل عليهم، وعلى وجودهم كجماعة وطنية واحدة.

ويُمكن القول بأنّ سياسة الاحتلال في منع رفع العَلم الفلسطيني هي سياسة لها جذور تعود إلى عام 1967، أي بعد ثلاث سنوات من إقراره كعلم للوطن الفلسطيني وذلك في المجلس الوطني الفلسطيني الأول الذي عقدته منظمة التحرير الفلسطينية في مدينة القدس عام 1964، فمع انتهاء حرب عام 1967، وبعد أن تمكّن الاحتلال من إحكام سيطرته على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس، ذهب كجزء من سياسته الإحلالية العامة إلى محاربة الرموز الوطنية الفلسطينية التي تأتي لتُدلّل على الهوية الفلسطينية ونؤكّد عليها، وأولى تلك الرموز التي قام الاحتلال بمحاربتها هي العَلم الفلسطيني، حيثُ اعتَبَر حيازته عملًا غير قانوني، وأمرَ بمنع رفعه باي شكل من الأشكال في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967.

وضمن السياق السابق، يُمكن التأكيد بأنّ سياسة الاحتلال في منع رفع العلم الفلسطيني والتي اختلفت ظروفها وسياقاتها في المراحل الفلسطينية المختلفة، كانت تُجابه من قِبَل الفلسطينيين في كلّ مرة بالرفض والتمرّد، فإبان الانتفاضة الفلسطينية الأولى –مثلًا- كانت النساء الفلسطينيات يقمنَ بخياطة العلَم بشكل سري، وذلك بما يتوفّر لديهنّ من أقمشة ملونة، حيثُ أنّهنّ كنّ يقمنَ بإعطائه للشباب المشاركين في مواجهات مع قوات الاحتلال، وكانَ هؤلاء الشباب يضطلعون بمهمة رفعه أثناء هذه المواجهات، في إعلان واضح وجلي عن هويتهم كجماعة وطنية واحدة مناهضة ومقاومة للاحتلال.

وضمن الإطار السابق، فإنّ فرقة "بالعكس" الفلسطينية حاولت في أغنيتها "عَلَم" تسليط الضوء على سياسة الاحتلال في منع رفع العلَم الفلسطيني إبان الانتفاضة الفلسطينية الأولى، واستراتيجية التمرّد والرفض التي أبداها الفلسطينيون اتجاه هذه السياسة، حيثُ تأتي الأغنية في كلماتها لتقول:

"كان العلم مدفون

بعيون وجيوب مخزقة من الشوق

كان العلم ممنوع، كان العلم مرفوع

وكان العلم مرفوع عسلوك الكهربا بالسرّ

والليل يشهد للعلم

وكان للعلم ألوان".

وفي مقطع آخر فيها، تأتي الأغنية لتروي تلكَ الرمزية التي تَحملها ألوان العلم الفلسطيني وتُشكّل في كليتها تأكيدًا على هوية الشعب الفلسطيني، وعلى تواجده وحضوره كجماعة وطنية واحدة، حيثُ تقول في كلماتها:  

"دخلوا جنود عالدار

شافوا العلم مدفون بطحين

طالوا العلم أبيض، طالوا العلم مهزوم".

إصرار الفلسطينيين على رفع العَلم الفلسطيني في كلّ مناسبة يأتي كتأكيد دائم منهم على إعلان التمرّد على سياسات الاحتلال الإحلالية التي تأتي بقصد طمس هويتهم الوطني

وإنّ الكلمات السابقة التي تحكي قصة بيت فلسطيني قام جنود الاحتلال باقتحامه من أجل التفتيش عن مقاوِمين، فقام أهله بمحاولة إخفاء العَلم ودفنه بالطحين، تجيء كما أنّها تروي تلكَ الرمزية التي تحملها ألوان العلَم، وتقول بأنّ لجوء الفلسطينيين إلى إخفاء العلَم في الطحين –وإن كان له ما يبرره- كان بمثابة إعلان هزيمة له وللجماعة الوطنية الفلسطينية، التي تحمله وترفعه في ألوانه الأربعة للتدليل على هويتها الواحدة والتأكيد عليها.

أخيرًا، يُمكن القول بأنّ إصرار الفلسطينيين على رفع العَلم الفلسطيني في كلّ مناسبة – لن تكون آخرها جنازة الشهيدة شيرين أبو عاقلة- يأتي كتأكيد دائم منهم على إعلان التمرّد على سياسات الاحتلال الإحلالية التي تأتي بقصد طمس هويتهم الوطنية والتعمية عليها، كما يأتي كإعلان سيادة –ولو لحظية- على الأرض التي تعود بالأصل لهم، فالعَلم الفلسطيني سيبقى مرفوعًا وعاليًا، ولن يظفر هذا الاحتلال المجرم بتلك اللحظة التي يرى فيها العَلم الفلسطيني مختفيًا أو مواربًا أو مخفيًا لا في الطحين ولا في غيره!