29-أغسطس-2016

تدور قصّة الفيلم الحائز على أسد فينيسيا الذهبي عام 2008 حول المُصارع راندي روبنسون، مُصارع كبير في السن كان من أيقونات الحلبة في الثمانينيات ويحاول أن يقضي يومه ما بين العيش على الماضي ومحاولته لإصلاح الحاضر في علاقته مع ابنته مثلًا، كان راندي في الماضي أحد نجوم اللعبة لكن الأمور كلها تغيّرت عقب نوبة قلبيّة أصابت الرجُل، الأمر الذي منع الرجُل من ممارسة المصارعة حفاظًا على صحّته، ومازالت آثار النجومية تطارده حيث يطالبه الجماهير بالتوقيع على قمصانهم وأشرطة الفيديو لمبارياته القديمة، لكن ذلك لم يعوّضه يومًا عن علاقته المُحطّمة بابنته.

دارين أرنوفسكي في بداية الفيلم يرسم صورة حقيقيّة للوضع الذي يعيشه الضارب راندي روبنسون، هو يعيش وحيدًا بلا أصدقاء تقريبًا وما زال يُصارع لكن بشكل أقل، وفي صراعات قليلة جدًا حيث يضطر أحيانًا للعمل لتحصيل إيجاره الشهري.

بطل الفيلم لا يتخلّى عن ماضيه، نرى كيفية اهتمامه بشعره وتغذيته وصبغه لجلده، ما زال يتدرّب ويحاول أن يتعامل مع الناس بنفس طريقة تعامله معهم أيّام شهرته

في ملحمة المُخدّرات الأعظم (مرثيّة حُلم) لأرنوفسكي كان هاجس الشهرة هو ما يحوم حول بطله، في فيلمه هُنا هذا الهاجس هو محور الفيلم الرئيسي، بطل الفيلم لا يتخلّى عن ماضيه، نرى كيفية اهتمامه بشعره وتغذيته وصبغه لجلده، ما زال يتدرّب ويحاول أن يتعامل مع الناس بنفس طريقة تعامله معهم أيّام شهرته، راندي روبنسون هُنا يرفض أن يتخلّى عن شهرته ويعيش عليها بطريقة غير إراديّة.

اقرأ/ أيضًا: فيلم "حب وصداقة".. حين تلعب جين أوستن بذيلها

في هذا الاتجاه يُغذّي النص هذه الجٌزئية بالكثير من التفاصيل لمُراقبة الحالة بشكل أكثر وأكثر. وفي نفس الوقت يذهب أرنوفسكي بعيدًا في العلاقة بين المُصارع والشهرة، فيُرينا هُنا مِقدار ما يفعله المصارع من أجل الشهرة، والذي قد يصل في بعض الأحيان إلى جرح أنفسهم خلال المُباراة، راندي روبنسون يرى ذلك كنوع من التاريخ حيث يخبر صديقته كاسيدي بذلك.

صديقة راندي الوحيدة في الفيلم هي راقصة تعرٍّ في الأربعين من العُمر، تُعاني من الضمور في مهنتها وأيّامها العظيمة قد ولّت نظرًا لكبر سنّها، لا تجد من ترقص له باستثناء راندي نفسه، نص الفيلم هُنا ذكي جدًا، فشهرة كلاهما تنطلق من الجسد، والثمانينات بالنسبة لهم هي الفترة الأفضل، هذا الشكل يجعل لقاءاتهما كنوع من التطهير أو البكاء على الماضي العظيم.

في دراما أخرى داخل الفيلم، يبحث راندي روبنسون عن ابنته ستيفاني ويطلب رضاها، يخبرها أنه تقدّم في السن ويحتاج إلى الرعاية، لكنّها ترفضه مرارًا ومبرراتها بسيطة ومُقنعة، حيث تخبر والدها أنه لم يعرف عيد ميلادها ولم يأت لها بهديّة، وعندما تتقدّم الأمور في سبيل الصُلح يفسد راندي الأمور في نزوة جنسيّة تؤخره عن ميعاد ابنته فترفضه للأبد في مشهد مُؤثّر ومُهم.

في نهاية الفيلم، يُدرك راندي أنّه قد انطفأ نجمه وأفَل، يُدرك أن محاولاته الدائمة للعيش على الماضي قد باءت بالفشل، وبأنّه لن يعود لذلك المَاضي مهما حدَث، ويُدرك أيضًا أن عذاباته ليست في ذلك فقط، ولكن في مُقاومته الداخليّة لرفض حياته التي يعيشها الآن، فيوافق في قرار مجنون جدًا على إعادة مباراته الاعتزاليّة مع الإيراني آية الله، راندي يؤكّد أن المُصارعة هي حياته الفعليّة (أكثر مكان يؤذيني هو هُناك، حيثُ العالم لا يهتم بي)، وعلى الحلبة يُقدّم راندي المشهد المُؤثّر الأخير، كُل شيء في هذا المشهد عظيم حقًا، زوايا الكاميرا، النشوة في عيني راندي، صوت المشجّعين مع ترك النهاية مفتوحة للمُشاهدين.

اقرأ/ أيضًا: فيلم "صورة مجسمة للملك".. انهزامية الحلم الأمريكي

سيناريو الفيلم بسيط جدًا بشخصيّاته الثلاث واضحة المعالم، لكن هذه السيناريوهات تحتاج جُهدًا إخراجيًا كبيرًا نظرًا لتقليديتها الشديدة ولحاجتها لنوع خاص من البصمة البصريّة.

أرنوفسكي عظيم جدًا وراء الكاميرا، حركة كاميراه الهادئة وانتقالاتها المُناسبة والمتغيرة حسب نفسيّة المشهد، تحكّمه في إيقاع مشاهده وأداءات مُمثليه داخل المشهد. أرنوفسكي يُجيد ملء فيلمه بالكثير من الشجن والشاعريّة والرقّة، مثل المشهد الذي يُحضر فيه هدية لابنته ثم يصطحبها في نُزهة ويرقصا معًا.

وهو يعرف جيدًا متى يقطع ومتى ينتقل من لقطة لأخرى، يعرف متى يستخدم الموسيقى ومتى يتّجه للصمت، يعرف كيف يُظهر مشاهد تبدو كالحياة الحقيقيّة وكيف يُخرج مشاهد المُصارعة العنيفة.

ميكي رورك هو أعظم ما في هذا العمل وبدون أي شك، ميكي رورك هُنا يُقدّم الأداء الأعظم في مسيرته وربّما واحدًا من أعظم خمسة أداءات رجاليّة قدّمتها الألفيّة، الرجُل هُنا يحمل كل ألم السنين على كتفيه ويعبّر عن كل مكنونات الشخصيّة في نظراته الحزينة الزائغة وصوته المبحوح وملامحه الحاملة للشجن والوهَن وتعبيرات وجه الرجُل الذي يحاول أن يبدأ من جديد، رورك هُنا هو روح العمل الحقيقيّة حقًا. وكلما أشاهده أتذكّر أداء براندو العظيم في التحفة (على رصيف الميناء) حين يصرخ لأخيه أنّه أراد أن يكون شيئًا بدلًا مما هو الآن، مُجرّد لاشيء، ونكرة!

هذا فيلم عظيم، عن ارتباطنا بمكان وحيد حين لا يهتم العالم بأمرنا، وعن الأخطاء التي نرتكبها في حياتنا فنندم عليها فيما بعد، فيلم عن زيف الشُهرة وما تسلبه من الإنسان قبل أن تمنحه، فيلم عن بحثنا لمعنى حقيقي وقيمة مفقودة في حياتنا وعن ذات لم تجد نفسها سوى بين صيحات المُتفرّجين.

الفيلم الرابع في مسيرة دارين أرنوفسكي هو أعظم أفلام 2008 وواحد ضمن صفوة ما قدّمته الألفيّة بالنسبة لي.

اقرأ/ أيضًا:
أرنوفسكي في Black Swan وهوس الوصول للكمال
أليخاندرو إيناريتو: عليك أن تنهي هذا السباق
"كابتن فانتاستيك".. يوتوبيا خطرة