05-سبتمبر-2018

من المسلسل

يُقدَّر عدد الخسائر البشرية للولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الثانية بـ 400 ألف، بينما في المقابل راحت حياة 27 مليون شخص من الاتحاد السوفييتي نتيجة تلك الحرب البشعة. قد تكون البيانات والأرقام معروفة للجميع، لكن يبدو الأمر غريبًا عندما تصدر على سبيل إبراء ذمة الجيش الأحمر في سلسلة تلفزيونية ينتجها ويعرضها التلفزيون الأمريكي. من الغريب أن نسمع حوارات بالروسية، أو نرى المنجل والمطرقة في مفتتح كل حلقة من حلقات السلسلة التلفزيونية "الأمريكيون" (The Americans) التي أنهت دورته في نهاية أيار/مايو الماضي، بعد ستة مواسم، دشّنت فيها نفسها كواحدة من قمم القصّ التلفزيوني المعاصر.

دشّن مسلسل "الأمريكيون - The Americans" واحدة من قمم القصّ التلفزيوني المعاصر

في خضم فترة الاضمحلال التي تشهدها الشبكات الأمريكية الكبرى للإنتاج التلفزيوني، التي تستسلم تقريبًا أمام الوفرة الهائلة المتاحة من إنتاجات شركات البث على الإنترنت؛ سيكون لزامًا الإشارة إلى "الأمريكيون" كعملة نادرة. من المحتمل أن تكون هناك في المستقبل فسحات قليلة لمثل هذه الرهانات، انطلاقًا من الانجذاب والحفاوة النقدية التي لاقاها المسلسل طيلة مواسمه الستة، باختياره الدخول في تحدٍ صعب لمخاطبة جمهوره من المشاهدين الراشدين، تقريبًا بصورة حصرية، والاستمرار في خوض ذلك التحدي باقتراحات فنية شجاعة.

اقرأ/ي أيضًا: 6 شخصيات من مسلسل Orange is the New Black

في قلب حبكة المسلسل، الذي تدور أحداثه في عهد الرئيس الأمريكي رونالد ريغان، الزوجان فيليب (ماثيو ريس) وإليزابيث جينينغز (كيري راسل)، وهما زوجان شابان، مع طفليهما، يقيمان في إحدى ضواحي واشنطن، ويديران وكالة سفر خاصة. لكن في الواقع، كلاهما عميلان سرّيان في واجهة تمويهية يتم تنظيمها بشكل كامل من قبل الاستخبارات السوفيتية (كي جي بي)، بما فيها علاقتهما نفسها. تتمثل مهمتهما التجسسية في حماية وطنهم من الهجمات الأمريكية، وهي مهمة تتطلب منهما، على سبيل المثال، إرخاء أي كود أخلاقي حاكم لتصرفات أي أسرة تقليدية. فعند الضرورة، يجب على الزوجين الإغواء، الغش، السرقة أو القتل... ثم العودة إلى المنزل للتحقق من الواجبات المنزلية لطفليهما بكل طبيعية متوقعة ومعتادة في أي أسرة مستقرة.

 

تحت العصا الإبداعية لجو وايسبرغ، وهو ضابط سابق في وكالة الاستخبارات الأمريكية المركزية تحوّل إلى التأليف التلفزيوني، ينتج عن تكشّفات القصة عدة طبقات من المعاني. الأولى تستكشف شرخًا هائلًا في طريقة الحياة الأمريكية، باختيار وجهة نظر العملاء السوفييت، الذين يكيّفون مفاهيم العدالة والرفاهية من المنظور الشيوعي، أو في أي حالة اشتراكية حقيقية. (يميل الخطاب إلى البحث عن توازن في الموسم الأخير، بزمنه الدائر أثناء الأيام الأخيرة للاتحاد السوفييتي، وفيه تكتسب شخصية ستان بيمان، عميل استخباراتي متخصص في اصطياد الجواسيس السوفييت على الأراضي الأميركية، كثافة دراماتيكية). وجود ذلك المنظور "الآخر"، السوفييتي، أدّى إلى اتهام المسلسل بالحنين إلى توازن النظام العالمي القديم، وهو اتهام يطول الردّ عليه ويتداخل في الوقت نفسه مع تطورات عوامل أخرى سياسية وإقليمية ألقت بظلالها على المسلسل.

لكن هناك أيضًا أجندة ثانية، مخفية تحت القناع المثير لحبكة الجواسيس، تروي بالتفصيل منحى صعود وهبوط زوجين (كما هو متوقع، يقع العميلان في الحب)، يعانيان ويستمتعان بالقدر ذاته بالرابطة الغريبة التي تجبرهما على مشاطرة الحميمية مع الآخرين وعيش واقع آخر مزيَّف. لا تكتمل سعادة الفانتازيا السوداء لقصة هذين الزوجين، أبناء الطبقة الوسطى الأمريكية، كما هو مفترض، إلا بسعادة أرض الوطن، على الجانب الآخر من المحيط. أما خاتمة الطبقات فهو ذلك التفاعل المحسوب لعديد الخطابات التي يحتويها المسلسل، حول الخيانة والوطنية والدين والعائلة والتمثيل والصدق، مع استقبال المتفرجين، هؤلاء الذين سينخرطون فجأة في حبكات فرعية طويلة ومعقدة (رومانسية أو سياسية) تختبر إخلاصهم وانحيازهم وولائهم لأي من الشخصيات، ومع السلسلة نفسها.

لمدة ست سنوات، حافظ "الأمريكيون" على رهانه في الابتعاد عن موضات مغازلة التريند ومهادنة دعوات الصواب السياسي ومقايسات جمهور الإنترنت

في لعبة الماتريوشكات هذه، يقع على عاتق الممثلين الرئيسيين مهمة مفصّلة: أن يفضَّا، عبر تطورات الحبكة، حقيبتهما التمثيلية ويجلوان محتوياتها أمام المتفرج، الأداء تلو الأداء، حتى تنتج في النهاية لعبة منوِّمة من الانعكاسات الذاتية ونسخ طبق الأصل، وهي لعبة تمتد أبعادها إلى خارج الشاشة الصغيرة، لأن راسل وريس أصبحا حبيبين بالفعل في الواقع.

 

لمدة ست سنوات، حافظ "الأمريكيون" على رهانه في الابتعاد عن موضات مغازلة التريند ومهادنة دعوات الصواب السياسي ومقايسات جمهور الإنترنت، بتقديمه جودة غير متوفرة في أغلب الإنتاجات التلفزيونية الأخيرة، يمكن تلخيص فرادتها في كلمة واحدة: التلاحم. عُقد السرد التي تؤدي إلى النهاية الكبرى (التي في مسلسل آخر طويل متعرج كان يمكن لها أن تؤول إلى اختراع قاتل متسلسل أو وضع البطل في غيبوبة أو إرساله إلى ملجأ روحاني)، تخدم فقط تغذية عضوية، إن جاز التعبير، للمعضلات الأخلاقية الموجودة سلفًا لدى الشخصيات كي تستمرآثارها في ديمومتها الطبيعية. وبالتالي، فإن الموسم السادس والأخير هو فقط نتيجة لهذا التقدم الطبيعي، عندما تمثل أزمة الزوجين انقسام النظام السياسي بأكمله. إننا نواجه مزيجًا سرديًا غير معتاد، جدليًا تقريبًا: اليومي مرتديًا أصداء صراعات تاريخية كبيرة، احتواء بنائي لرخاوة ثيماتيكية.

اقرأ/ي أيضًا: مسلسل 13 Reasons Why.. بحث في الهشاشة

نعم، إحدى الاستحقاقات العظيمة لمسلسل "الأمريكيون" هي العثور على جمهور بالغ لإطلاق أسئلة معقدة. نُقدِّر، بطبيعة الحال، حبكات التجسس المثيرة، ومتتاليات الأكشن المتقنة، والمشاهد الجنسية القاتلة، لكن الجرأة الحقيقية للسلسلة (وما سنفتقده في بانوراما العروض الحالية) هي توقفها، دون التساهل أو الانغماس في اليأس والإرهاق والحزن الذي يأتي مع القرارات المأخوذة في ضوء حرية واضحة تتيحها حياة البالغين، كما تحاول أن تخبرنا مسلسلات أمريكية أخرى. طموح مسلسل "الأمريكيون" لم يكن أقل من مواجهة انجرافنا وانتقالنا الحثيث، كمجتمع، من الإحداثيات الأكثر مرارة، والتي، كما ثبت، هي الأكثر واقعية.

اقرأ/ي أيضًا:

مسلسل "Insatiable".. عنصرية نتفليكس ضد البدناء!

أفضل 10 مسلسلات يمكن متابعتها على نتفليكس