11-ديسمبر-2019

لافتة بمضمون عنصري رفعت في إحدى قرى محافظة جبل لبنان (مواقع التواصل الاجتماعي)

يستحيل التأكد تمامًا من الشائعة التي تقول إن أحد مطاعم بيروت الشهيرة - بل ربما يكون أحد أشهر المطاعم في الحمرا - طرد 60 عاملًا سوريًا بعد الأزمة الاقتصادية الأخيرة في لبنان. 

لا يوجد بنية تحتية للخطاب في لبنان؛ الخطاب دائمًا من فوق. معارك كبيرة، صراعات وجودية... إلخ، لكن حقوق العمال؟! من يهتم؟

حدث مثل هذا مألوف حتى قبل الانتفاضة، إذ من يهتم لطرد العمال أصلًا؟! عادي؛ أشياء مثل هذه تحدث في لبنان. ومن يسأل عن عمال؟! راجعوا الأسبوعين الأخيرين. البلد ينهار. ليس غريبًا أن يطرد العمال، وألا تكون لهم أي حقوق! 

اقرأ/ي أيضًا: مع تفاقم الأزمة الاقتصادية.. ما مصير اللاجئين السوريين في لبنان؟

تبدو الأمور أحيانًا كما لو أنه لا يوجد بنية تحتية للخطاب في لبنان؛ الخطاب دائمًا من فوق: معارك كبيرة، صراعات وجودية... إلخ، لكن حقوق العمال؟! من يهتم؟ هكذا، مرّ الخبر بسلام وسلاسة، بين الاعتراضات الافتراضية على المواقع الافتراضية. لولا الانتفاضة، لكان كل شيء بقي على حاله. الأفكار ذاتها تُسحب عن الرفوف ذاتها.

وحدث مألوف أن يتقيأ كثيرون، من مختلف مواقعهم الطبقية والطائفية، مواقف عنصرية ضدّ السوريين. النقاش طويل ومتواصل، والانتفاضة في أساسها قامت من أجل الحقوق. لكن معلومات كثيرة تؤكد أن المطعم "صفّى" عماله، و"اصطفى" منهم اللبنانيين، ومن يمكن الاعتماد عليه لإنجاز أعمال بالحد الأدنى. 

وغالبًا، بعد قضم التعويضات في ظل غياب أي آلية قانونية لمراقبة ضمان الحقوق، سيذهب العمال كما ذهب آخرون من جنسيات آسيوية وأفريقية، وقُضمت حقوقهم. بيد أن المسألة اللافتة تبقى دائمًا قدرة جزء من اللبنانيين على إنتاج الكراهية، واستحضارها بكمية كبيرة ضدّ جيرانهم.

بعيدًا عن أي محاولة سكولائية، يمكن استعراض ثلاث خلفيات حاضرة دائمًا في الوعي العنصري اللبناني. وهذا العرض، ليس موجهًا للعارف. هذه محاولة لاستعادة الأسباب، على أمل أن يصير يومًا ما تفسيرها مستحيلًا.

أولًا: السوريون بوصفهم أجانب

ليس هذا الافتراض نابعًا من أفكار الجمعيات النيوليبرالية المملة. قد يجد له أساسًا يقترن بالصراع على هوية لبنان. ثمة من يتمسك بعروبة لبنان، مقابل من يصرّ على الجملة الدستورية: "لبنان ذو وجه عربي".

بالنسبة للجيل الجديد، لم يعد هذا النقاش مسليًا، فقد بات واضحًا أن لبنان عربي، وبات واضحًا أيضًا، أنه غير عربي، وبات واضحًا أن العروبة قيمة ثقافية، وبات واضحًا أيضًا أنها لم تردع دولًا كثيرة عن التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي.

وأن يكون السوريون أجانب، بالنسبة لفئة من اللبنانيين، فهذا لا علاقة له بآرائهم "الدستورية" بالهوية اللبنانية، بل له علاقة واضحة بمسببات الزينوفوبيا (رهاب الأجانب) المعتادة.

وفي معظم الأحيان، القنوات التلفزيونية البائسة التي تحرّض ضدّ اللاجئين والعمال، سوريين وفلسطينيين، هي القنوات نفسها التي تحرّض على عاملات المنازل الآسيويات والأفريقيات. والتيارات السياسية التي لا توفر جهدًا لنهش اللاجئين، هي نفسها التي تعاقبت على سن وملاحقة كل آخر.

ما هو غريب فعلًا، أن النزعة اللبنانية ضدّ "الغريب" تبقى بلا مصادر. فإن كانت مصادر النزعة الأوروبية لإنتاج "آخر" تتأثر بعدد من المصادر، مثل إرث إغريقي فلسفي وقانوني مستقى من التجربة الرومانية، إضافة إلى المسيحية كإرث حضاري وثقافي، فمن أين تأتي هذه النزعة اللبنانية، المعززة بالمسرح الرحباني والمخيال الفينيقي؟

ثانيًا: السوريون بوصفهم عدوًا

في الأيام القليلة التي تلت اغتيال رفيق الحريري في 2005، تعرض العمال السوريون في لبنان لواحدة من أبشع موجات العنصرية في التاريخ المعاصر. لاحقهم الغاضبون، الذين اتهموا "سوريا" باغتيال الحريري، ونكلوا بهم ضربًا وجرحًا.

أغلب الذين مارسوا هذه الاعتداءات، عمليًا، وليس تحليليًا، ينتمون إلى ما سمي بفريق "14 آذار" المعادي لسوريا، الذي اضمحل وذاب بمرور الوقت. أيد رموز هذا الفريق الثورة السورية، مثلما عارضوا نظام البعث، لكنهم لم يكونوا في يوم من الأيام مع شعبها، كان موقفًا معترضًا على البعث، أكثر من كونه موقفًا للدفاع عن السوريين.

إلى ذلك، ذاكرة البعث طويلة في لبنان، وارتباط السوريين بهذه الذاكرة ليس قصيرًا، حتى بعد اندلاع الثورة السورية، وبعد كل ما حل بالسوريين من جرائم ارتكبها البعث بحقهم؛ ما زال الفصل بين البعث والسوريين عصيًا على كثير من اللبنانيين الذين هم خارج الاصطفافات السياسية التقليدية.

وقد يكون عدم الفصل متعمدًا في كثير من الأحيان، لكنه في أحيان كثيرة أيضًا ليس متعمدًا. وما قد يعززه فعلًا، هو مشاركة حزب الله في القتال بسوريا إلى جانب النظام، بينما يعيش في لبنان جزء كبير من اللاجئين، ويشاركون اللبنانيين المأساة الاقتصادية. وكونهم "عدو" قديم تمثل بالاحتلالات والاغتيالات البعثية الطويلة في لبنان، يبدو أن إنتاجهم كأعداء ما زال سهلًا، حتى وإن كان ذلك يستند إلى مرتكزات خاطئة وغير أخلاقية.

ثالثًا: السوريون بوصفهم عمالًا

تقريبًا جميع السودانيين في الأفلام المصرية الكلاسيكية، الحاضرة في ذاكراتنا، يعملون كنواطير. ليسوا فقط سودانيين، بل نواطير دائمًا، يرتدون جلبابًا طويلًا أبيض، كأن المخرجين ليسوا قادرين على رؤية سودانيين خارج هذه الصورة دائمًا. ثمة ما هو أفظع: جميعهم اسمهم عثمان.

يندر أن يحضر في الذاكرة، من السينما المصرية، أي سوداني لا يكون ناطورًا، بجلباب طويل، ولا يكون اسمه عثمان. وهذه علاقة، إذا استعنّا بمناهج نقد الاستشراق، قد نفترض أن سببها هو تعامل السينما المصرية مع نفسها كمركز، في مقابل تصوير الآخرين كآتين من الهوامش، ولا حاجة للتعرف على هوياتهم الحقيقية.

لكن هل يتعامل اللبنانيون مع السوريين كآتين من دولة هامشية، مقابل شعورهم بالمركزية؟ هذا مبحث طويل، وإن كان صيت اللبنانيين عن أنفسهم، يبشّر بإجابات مقلقة، فالحقيقة أن موقع لبنان وتعدديته، لن يجعلانه بأي شكل من الأشكال مركزًا دائمًا.

إذًا، هل ينظر اللبنانيون إليهم بوصفهم عمال بناء فقط؟ من نافل القول، إن عمال البناء، والعمال عمومًا، ليسوا بحاجةٍ إلى مديح، فهم الذين أعادوا إعمار لبنان تحديدًا، بعدما هدمته الحرب.

ما هو مقلق فعلًا، هو ظهور فرضيات تعززت مع الوقت، بسبب الأوهام الليبرالية التي حكمت لبنان بجهدٍ من الحريرية وسياساتها، تدور حول إمكانية الكسب السهل، واستعداء العمل بوصفه قيمة ثابته.

ظهرت فرضيات تعززت بسبب الأوهام الليبرالية التي حكمت لبنان، تدور حول إمكانية الكسب السهل، واستعداء العمل بوصفه قيمة ثابتة

ولا نتحدث عن التكنولوجيا، أو عن الآلة والإنسان، بالمعنى الماركسي العبقري للكلمة؛ نتحدث عن ذلك الشعور بتقديس التجارة وفعل السمسرة ومتفرعات الحداثة منها، مثل: التسويق والإعلان، مقابل الاستمرار في خلق صورة مهمشة للعمل والعمال. أليس حكم المصرف أوضح مثال على هذه الثقافة؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

تطورات العنصرية في جنوب لبنان.. العمال السوريون مهددون بقطع اليد!

"حضانة للبيض فقط".. لعنة التمييز العنصري في لبنان تطارد طفلًا سودانيًا