الترا صوت - فريق التحرير

لم تعد المصارف بالنسبة للبنانيين مجرد شركات ضخمة ومجهولة، بعد أن صارت المشكلة واضحة بينهم وبينها، في حين تزال الالتباسات قائمة حول طبيعة الدور الذي تلعبه المصارف، وكيف آلت الأمور إلى ما آلت إليه.

في عهد رياض سلامة الذي يحكم مصرف لبنان منذ ربع قرن، تحول الاقتصاد اللبناني إلى اقتصاد "مدولر" بارتباط الليرة بالدولار الأمريكي

وفي مؤتمره الصحفي الأخير، لم يقنع حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، الكثيرين. كما دافع عن خياراته التي يؤمن كثير من الاقتصاديين بأنها ساهمت في تراكم رؤوس الأموال في يد القلة. لكن كيف تفاقممت الأزمة، وإلى أين تتجه؟

اقرأ/ي أيضًا: تقدير موقف: انتفاضة لبنان.. أسبابها وتداعياتها

اقتصاد مدولر

تجدر الإشارة في البداية إلى أن الاقتصاد اللبناني هو اقتصاد "مدولر"، أي أن الليرة اللبنانية مرتبطة بالدولار الأميركي. وقد حدث هذا في عهد سلامة نفسه، تحديدًا أواخر التسعينات.

 يحكم سلامة مصرف لبنان منذ ربع قرن. وقد تكون هذه أطول مدة لحاكم مصرف في التاريخ. لكن سلامة ليس وحيدًا؛ فالسياسيون في لبنان يقضون عادةً مثل هذه المدة وأكثر في مواقعهم، حتى باتت قاعدة عامة. 

ولعدة أسباب كان سلامة خارج دائرة الشك، فقد كانت مصادر "وصول" الدولار إلى لبنان مؤمنة، وكانت مرتبطة بالاستثمارات القادمة من الخارج، وهو أمر شائع في كافة دول العالم.

لكن، تراجع هذا المصدر، واضمحل بشكل كبير، بالتزامن مع تراجع مصدرين أساسيين، يعتبران أكثر أهمية في الحالة اللبنانية:

1. تراجعت التحويلات التي تصل من المهاجرين اللبنانيين، أي تحويلات من لبنانيين يعملون خارج لبنان، ويرسلون الأموال إلى بلادهم.

2. انحسار السياحة، بسبب الأزمات السياسية والأمنية التي حلّت بالبلاد. وفي المقابل، يخرج اللبنانيون للسياحة في الخارج بدولاراتهم، فيخسر لبنان قيمة تقريبية لما تُدخله السياحة، رغم فارق الأرقام بين القادمين والمغادرين، ذلك لأن الليرة اللبنانية مقوّمة بأعلى من قيمتها الحقيقية، وهذا يسبب زيادة في الأسعار داخل لبنان، ويجعل السفر إلى تركيا أقل كلفة مثلًا. 

قبل 2011، كانت المصادر المذكورة تغطي كلفة المستوردات التي يتوجب دفعها بالعملات الأجنبية، رغم أن هذه الكلفة تقارب 20 مليار دولار تقريبًا. ثم بدأ العجز التجاري، والذي يبين فارقًا كبيرًا للمستوردات على حساب الصادرات، باستزاف احتياطي المصرف المركزي من العملات الأجنبية، لتغطية كلفة المستوردات الضروية، ولا سيما المحروقات والأدوية والقمح.

هندسة مالية لمصلحة المصارف

ثم جاءت  "الهندسات المالية" التي قام بها حاكم مصرف لبنان، وكانت لمصلحة المصارف بشكل شبه حصري، إذ استفادت المصارف من أرباح كبيرة دفعها مصرف لبنان كمعدلات فائدة. وزعت هذه الأرباح على المصارف وعلى كبار المودعين.

وكبار المودعين أنفسهم، هم الذين رفض سلامة في مؤتمره الصحفي أن تطالهم عمليات "قص الشعر"، رغم كونهم الأكثر قدرة على تحمل الأعباء، نظرًا لأنهم الأغنى.

وقد ترواحت معدلات هذه الفائدة التي استفاد منها هؤلاء ما بين 20% و40%، فيما رفعت هذه "الهندسات المالية" أرباح توظيفاتها لدى لمصرف المركزي.

امتصاص السيولة من السوق

بعد هندسات سلامة المالية، قرر مصرف لبنان امتصاص السيولة من السوق، في إجراء يقول باحثون اقتصاديون إنه تسبب في تصفير النمو وإفلاس الشركات وارتفاع معدلات البطالة.

وإلى جانب تقييد السيولة بالدولار، أدت هذه الاجراءآت مجتمعة إلى عدة مشاكل:

  • انتقل الطلب المرتفع على الدولار إلى الناس، وصار يُطلب منهم التوجه إلى السوق السوداء والصرافين، لشراء الدولار منهم بأسعار أعلى من سعر الصرف.
  • كما يحدث في المشاكل المشابهة، يصعب ضبط السعر في السوق السوداء، رغم أن سعر صرف الليرة مقابل الدولار، المحدد من مصرف لبنان هو 1515 ليرة للدولار الواحد، إلا أن سعر الدولار في السوق السوداء وصل إلى 1850 ليرة أحيانًا.
  • بحسب المعطيات، معظم أصحاب المصارف هرّبوا أموالهم إلى الخارج، وذلك بسبب رفض حاكم المصرف والسلطات الرسمية اللبنانية تقييد حركة الودائع، بينما يصار إلى حجز الودائع الصغيرة والمتوسطة، ومنع المودعين من الوصول إليها وسحبها.
  • هناك شك كبير في التزامهم بتعميم مصرف لبنان بزيادة الأموال الأساسية الخاصة لمصارفهم، بهدف تعزيز سيولتها بالدولار وتأمين حاجات المودعين.

الانتفاضة اللبنانية
لافتة من إحدى تظاهرات الانتفاضة اللبنانية

ومع إصرار حاكم المصرف، على الرفض التام لأي مساس بالودائع الكبيرة، أو بإعادة جدولة الدين، أو بتقييد حركة هروب الودائع الضخمة إلى الخارج؛ تتجه الأزمة المالية إلى منحى تصاعدي، في ظل الاحتجاجات الشعبية، التي يتوقع أن تزداد زخمًا.

حلول مقترحة بعيدة المنال

في المقابل، فإن الحلول التي يقترحها الاقتصاديون، تبقى حتى الآن بعيدة المنال، خاصةً بعد المؤتمر الصحفي الأخير لسلامة، والذي يدل على تمسكه بحماية مصالح القلة التي تحتكر رأس المال، على حساب الأكثرية من الفئات المتضررة.

ذلك أن أي محاولة للخروج من المأزق، توجب إيقاف عمليات تهريب الودائع إلى الخارج على نحو حازم، وليس الحد منها، أو إبقاء الصيغة الملتبسة القائمة حاليًا التي سمحت بتهريب مبالغ هائلة.

تبقى حلول الاقتصاديين للخروج من المأزق في لبنان، بعيدة المنال، إذ إنها لابد ستطال كبار المودعين والقلة المحتركة لرأس المال

كما يجب عدم إعفاء المنتفعين من الهندسات المالية لحاكم مصرف لبنان، من الأعباء، بحيث يمكن التدقيق في الحسابات التي انتفخت بسبب هذه الهندسات، والاقتصاص منها (العملية المعروفة مصرفيًا بقص الشعر). كما يتحدث المصرفيون عن إمكانية إيجاد حلول أخرى، لكنها لابد ستطال كبار المودعين حصرًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

قدرة اللبنانيين الشرائية.. سبات اقتصادي عميق

طائفية جبران باسيل تطيل طابور البطالة في لبنان