14-فبراير-2019

مدخل وكالة العنبريين قبل هدمها (مواقع التواصل الاجتماعي)

حالة ما بين الجدل والغضب اجتاحت صفحات مواقع التواصل الاجتماعي في مصر خلال الأيام القليلة السابقة، أثارها هدم وكالة العنبريين، والذي أضاف حلقة جديدة لمسلسل اغتيال التراث المصري، بسبب اللوائح والروتين الحكومي. 

اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي في مصر حالة من الغضب بسبب هدم مبنى أثري يزيد عمره عن 900 عام في القاهرة القديمة

وصاحب ذلك موجة أخرى من الغضب على أرض الواقع بين الأثريين وسكان شارع المعز لدين الله الفاطمي بمصر القديمة، والذي يضم سوق العنبريين، وخاصة بين أصحاب المحلات الموجودة في العقار.

اقرأ/ي أيضًا: سرقات الآثار الكبرى في مصر.. تسريب التاريخ

واعتبر المنددون أن هدم وكالة العنبريين بمثابة ناقوس خطر يدق بضرورة إدراج المباني الأثرية التي سقطت من التسجيلات الأثرية، لتفادي خطر التضحية بمزيد من المباني الأثرية المصرية، خاصة وأن آلات الهدم طالت هذه المرة أحد أقدم المباني التاريخية في القاهرة، ليعيد طرح التساؤل حول المسؤول عما يحدث للأبنية الأثرية في مصر.

 

 

 

 

وقبل عدة أيام، بدأت قوات الحماية المدنية بعملية إزالة للعقار رقم 88 سابقًا، 84 حاليًا، بوجود مسؤولين مصريين، على رأسهم اللواء محمد أيمن عبد التواب، نائب محافظ القاهرة للمنطقة الغربية.

هدم وكالة العنبريين
تنفيذ قرار هدم وكالة العنبريين

 وهدم المبنى رغم وجود منازعات قضائية منظورة أمام القضاء بشأن ذلك العقار، متعلقة بتضرر شاغلي أحد عقارات شارع المعز، من عدم اتخاذ المختصين بحي وسط القاهرة للإجراءات المقررة قانونيًا، حيال ما يقوم به أحد ملاك العقار المذكور من أعمال هدم للعقار.

العقار 84.. من سجن إلى سوق عطور

يرجع تاريخ العقار إلى عهد الفاطميين أو ما يزيد عن 900 عام. فبعد أن أكمل الفاطميّون إنشاء قاهرة المعز بأسوارها وبواباتها وقصورها ومساجدها، لم يكن ينقصها، كما تقول كتب التاريخ، سوى "حبس المعونة"، أو السجن في لغتنا الحالية، وهذا ما يؤكده المقريزي في كتابه "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار" والمعروف اختصارًا بـ"خطط المقريزي".

ويقول المقريزي في خططه: "كان في الدولة الفاطمية مكان سجن لأرباب الجرائم يعرف بحبس المعونة، و كان شنيع المنظر ضيقًا لا يزال من يجتازه يجد منه رائحة منكرة. فلما كان في الدولة التركية، وصار قلاوون من جملة الأمراء الظاهرية، صار يمر من داره إلى قلعة الجبل على حبس المعونة، فيشم منه رائحة رديئة ويسمع صراخ المسجونين وشكواهم الجوع والعري والقمل".

لما رأى المنصور سيف الدين قلاوون ذلك، ولم يكن سلطانًا بعد، "تعهد على نفسه إن جعل الله تعالى له من الأمر شيئًا، أن يستبدل مكان هذا الحبس بنشاط آخر. فلما صار إليه مُلك ديار مصر والشام، هدم حبس المعونة، وبناه سوقًا أسكنه بيّاعي العنبر. وكان للعنبر إذ ذاك بديار مصر وجود، وللناس فية رغبة زائدة"، كما يقول المقريزي، ومن هنا ظهر اسم سوق العنبريين.

ومن ثم مر التاريخ على المكان، وتوالى الحكام، وكانت السوق تجدد على نفقة الحكومات المتعاقبة، حتى تحول إلى وكالة مُزيّنة تشد الناظرين، في عهد محمد علي باشا، وصار وقفًا مملوكًا ليعقوب صبري والذي كان أحد مساعدي محمد علي، وهو آخر من قام بتجديده وتطويره. وقبل وفاته أوصى بربع المكان لزوجته وأوقف الأرباع الثلاثة الأخرى على الأعمال الخيرية.

قرارات بالهدم.. والآثار ترفض التسجيل

بطريقة أو بأخرى بيعت ثلاثة أرباع الأثر في الخمسينات لمجموعة من الأشخاص منهم الفنانة فاطمة رشدي، وأصبح المكان مملوكًا لورثة زوجة يعقوب بك والمشترين الجدد وورثتهم. واستمر الحال حتى حدث حريق ضخم في محليْن من محلات الوكالة عام 2005. وفي هذا الوقت كان العقار متهالكًا، حتى أنه خلال استخدام خراطيم الحماية المدنية لإطفاء الحريق، سقطت حوائط كاملة من الوكالة.

وبعد الحريق مباشرة صدر قرار برقم 14 لسنة 2005، بهدم المكان كاملًا ومساواته بالأرض، لكن البائعين رفضوا الانصياع للقرار وطالبوا بانتداب خبراء لمعاينة المكان. ومنذ ذلك التاريخ تكررت محاولات الهدم الرسمية للمكان، ولكن وجود أكثر من 100 محل تشغل الوكالة حال دون تنفيذه، واستمرت النزاعات القضائية لأكثر من 10 سنوات.

وفي عام 2016، قامت مجموعة من النشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي بتدشين حملة للمطالبة بعدم إزالة العقار رقم 84. وبالفعل تم تشكيل لجنة من قبل وزارة الآثار لمعاينته، لكنها أفادت بعدم صلاحية تسجيله في عداد الآثار الإسلامية والقبطية، ثم شكلت النيابة الإدارية لجنة منفصلة، فأفادت بصلاحية تسجيل المبنى. لكن اللجنة الدائمة صدقت للمرة الثانية على عدم تسجيله عند عرض تقرير اللجنة عليها في نيسان/أبريل 2016.

بيان "الآثار" يزيد الجدل

مع بدء عملية هدم العقار وارتفاع صوت المنددين، كان من المتوقع أن يخرج بيان من وزارة الآثار لوقف ما يحدث أو على الأقل لتوضيح الموقف. وبالفعل خرج محمد عبدالعزيز، المشرف العام على مشروع القاهرة التاريخية بوزارة الآثار، ليقول إن العقار "غير أثري"، وأنه لم يسبق تسجيله من قبل في تعداد الآثار المصرية.

وأوضح عبد العزيز في بيان صحفي أنه صدر قرار بهدمه من محافظة القاهرة بسبب خطورته الداهمة، خاصة في ظل تعرض العقار للاحتراق مرتين في عامي 2005 و2017، مؤكدًا على أن الوزارة لا علاقة لها بالقرار إطلاقًا، كونه ليس أثريًا!

هذا البيان أثار تساؤلات عند الكثيرين، خاصةً وأن من المتعارف بين الجمهور أن أي عقار مرّ عليه أكثر من 100 عام يصبح أثرًا، فكيف لا يعتبر بيان الوزارة "وكالة العنبريين"، والتي يضرب عمرها في التاريخ، عقارًا أثريًا؟ وهل كونها لم تسجل في تعداد الآثار يجعل هدمها مباحًا؟ وعلى أي أساس يتم تحديد ما إذا كان العقار أثريًا أم لا؟

تواصل "ألترا صوت" مع محمد عبدالعزيز المشرف العام على مشروع القاهرة التاريخية بوزارة الآثار، والذي قال إن "عملية تسجيل الآثار لا تحدث بشكل عشوائي، وإنما وفقًا لقانون حماية الآثار.

وبحسب عبدالعزيز، يُبرز قانون حماية الآثار ثلاثة اشتراطات أساسية، تتمثل في: 

  1. أن يمر على العقار 100 عام. 
  2. أن يكون نتاجًا للحضارة المصرية بجميع حقبها. 
  3. أن يكون ذا قيمة فنية وأثرية عالية.

والاشتراطات الثلاثة التي ينص عليها قانون حماية الآثار، يُعتبر عقار وكالة العنبريين متوفرًا عليها جميعها. لكن مع ذلك صدر القرار بهدمه!

تكمن القضية هنا في اللائحة التنفيذية لقانون حماية الآثار، والتي يقول محمد عبدالعزيز إنها تحمل بدورها اشتراطات أخرى، أهمها أن يتواجد للعقار تخطيط كامل ووصف مفصل من الداخل والخارج لمعالم الأثر الأصلية، لتقوم على أساسها عملية الترميم، وهو ما لم يتوفر للعقار 84 وحال دون تسجيله.

قال مسؤول في وزارة الآثار المصرية إن مبنى وكالة العنبريين يتوافق مع شروط حماية الآثار لكن أوراقه ليس كاملة ما أعاق عملية حفظه وترميمه 

وأضاف عبدالعزيز أن "لجنة حفظ الآثار العربية" والتي شكلت قبل قرابة 140 عامًا، لم تلتفت لتسجيل وكالة العنبريين، في حين أن مبنى الوكالة كان "بالتأكيد أفضل حالًا"، رغم أنها "كانت أعظم لجنة في تاريخ الآثار الإسلامية، وهي السبب وراء حفظ جميع الآثار التي وصلت إلينا"، على حد قوله.

 

اقرأ/ي أيضًا:

شوارع وأحياء مصر.. وراء كل اسم حكاية

السيدة نفيسة البيضاء.. الجورجية التي سكنت قلوب المصريين