الانتحار ظاهرة عالمية عابرة للأمكنة والأزمنة، لكنها لا تنفك تشكل صدمة بالنسبة للمجتمعات بفعل بعدها الإنساني وتأثيراتها على الأفراد والجماعات والمجتمعات من نواحٍ عدة. وفي لبنان، ومع بداية هذا العام، وقعت العديد من حالات الانتحار بين شباب اختلفت توجهاتهم وأماكنهم وأفكارهم لكن جمعتهم ظروف متشابهة.

تفتقر لبنان مثل دول عربية عديدة إلى إحصائيات ودراسات معمقة تدرس مشكلة الانتحار

تذكر تقارير وقوع خمس حالات انتحار في أسبوع واحد الشهر الماضي، ورغم أن جانبًا كبيرًا من الأسباب التي قد تدفع أحدهم إلى الانتحار تظل غامضة، تشير رسائل بعض من أقدموا على الانتحار إلى أسباب ترتبط بالأوضاع النفسية الناجمة عن الأزمات السياسية والاقتصادية وما ترتب عليها من معاناة ومشاكل اجتماعية.

فما الذي يدفع أحدهم للانتحار، وماذا نعرف عن هذه المشكلة في لبنان؟

حالة انتحار كل 48 ساعة

تقول، جويل جابر، المشرفة على الخط الوطني الساخن للدعم النفسي والوقاية من الانتحار، في حديثها لألترا صوت إن شخصًا واحدًا يقدم على الانتحار كل 48 ساعة، وهي أرقام لا تعكس الواقع إذ تسهم عوامل من قبيل الوصمة والنبذ الاجتماعي في إخفاء حالات الانتحار من قبل عائلة الشخص المنتحر في العديد من الحالات، ناهيك عن أن المؤسسات الدينية تمتنع عن الصلاة على الشخص المنتحر إذ تعتبر الانتحار خطيئة بحق الإنسان، بحسب ما أوردت جويل جابر.

وبحسب مؤسسة الدولية للمعلومات، ووفق تقرير نشر مؤخرًا، بينت الأرقام أن 111 حالة انتحار حدثت في عام 2013. وفي عام 2019 بلغ عدد حالات الانتحار 172 حالة، في حين تراجعت حالات الانتحار إلى 139 حالة في العام 2021، بينما سجل عام 2021 145 حالة، وأما عام 2022 فوقعت خلاله 139 حالة انتحار في لبنان. وبشكل عام، بينت الأرقام أن المعدل الوسطي لحالات الانتحار منذ العام 2013 وحتى العام 2022 وصل إلى 143 حالة سنويًا.

لماذا ينتحر أحدهم؟

يلقي كثيرون باللوم على الدولة اللبنانية إذ يربطون بين الارتفاع في حوادث الانتحار والسياسات الحكومية التي فاقمت معاناة اللبنانيين، وتسببت في ارتفاع تكاليف المعيشة بفعل تضخم الأسعار وانهيار العملة الوطنية وارتفاع حدة البطالة وتبخر مدخرات اللبنانيين في المصارف.

تقول جويل جابر إن "القابلية للانتحار، بحسب الدراسات، ترينا أن مختلف العوامل تزيد من خطر الانتحار، ومن بين هذه العوامل: الأمراض النفسية، وغياب الشعور بالانتماء، وغياب الدعم الاجتماعي، والمشاكل الصحية المزمنة، والتمييز العنصري، والشعور بعدم الأمان والاستقرار، والمشاكل الاجتماعية والاقتصادية وغيرها من العوامل التي تتفاعل مع بعضها البعض وتصل بالإنسان إلى حد عدم إيجاد أي حل للوضع الذي هو فيه".

تتظافر مجموعة من العوامل لتؤدي إلى التفكير بالانتحار. (GETTY)

ووفقًا للدراسات، تقول جويل جابر، إن 10% من حالات الانتحار تحصل بفعل عوامل حادة ومفاجئة، وتضرب أمثلة على هذه

العوامل بخسارة مادية مفاجئة، لا تدهور بطيء في الوضع الاقتصادي للشخص. كما تقول أن 75% من حالات الانتحار تحصل

في البلدان منخفضة أو متوسطة الدخل، إذ إن ذلك  يزيد من الضغوطات الاجتماعية والاقتصادية التي تؤثر على الصحة النفسية، والتي

تتفاعل مع حالات نفسية مسبقة أو تقوم بتفعيل حالات نفسية جديدة، على حد قولها.

من ناحيته يقول الدكتور أنطوان الشرتوني، وهو رئيس الجمعية اللبنانية للتقنيات والاختبارات النفسية، في حديثه لألترا صوت، إن من ينتحر "هو شخص فقد أمله في الحياة، ويشعر بأنه وحيد ويعاني من يأس شديد".

كما يقول إن الشخص الذي يفكر بالانتحار لا يفكر به مباشرة وإنما يكون هناك مخطط في ذهنه يتبلور ويجعله مقدمًا على الانتحار. وفي حال الإصابة ببعض الاضطرابات النفسية، مثل اضطراب الشخصية الحدية، نلاحظ أن نسبة الأفكار الانتحارية أو الأفكار السوداوية تزداد لدى المصابين بالمقارنة مع غيرهم.

10% من حالات الانتحار تحصل بفعل عوامل حادة ومفاجئة مثل خسارة مادية مفاجئة، لا تدهور اقتصادي تدريجي.

ويشير إلى إمكانية وجود سبب واحد يدفع بالشخص للانتحار، لكن عادة ما يكون هناك خليط من أسباب عدة تدفع بالشخص للانتحار ومنها المشاكل الاقتصادية أو مشاكل العمل أو الاحتراق النفسي والضغط النفسي وغيرها من الأسباب. يقول الشرتوني إن "المعاش اليومي الصعب يدخل الشخص بحالة من الاكتئاب أو القلق والتوتر والخوف من المستقبل لكن لا يعني ذلك بتاتًا أن يقوم كل شخص يمر بهذه الظروف بأن يقدم على قتل نفسه".

ويضيف أن "الشخص عادة ما يفكر بإيجاد مخرج لهذه الأزمات وحين يفقد الشخص الأمل يبدأ بالبحث عن حلول للخروج منها، وهذا ما دفع بالكثيرين للهجرة ومغادرة لبنان. بينما الشخص الذي لديه استعداد للانتحار فإنه يجد في قتل نفسه وسيلة سهلة للتخلص من هذه المشاكل والعقبات بدل البحث عن حلول".

غياب لمنظومة وقاية من الانتحار

تفتقر لبنان ودول عربية عديدة إلى إحصائيات ودراسات معمقة تدرس مشكلة الانتحار وتمهد لوضع خطة طريق لحلها، فهناك أسئلة كثيرة لا إجابات عليها مثل الكيفية التي تتم بها عمليات الانتحار، ومعدل الأعمار، ونسب الانتحار لدى الذكور والإناث، والوضع الاقتصادي للمنتحرين، وطبيعة أعمالهم، بالإضافة إلى شهادات لعائلات من يقدمون على الانتحار وأصدقائهم، وغيرها من المعطيات التي يجب فحصها قبل تحليل المشكلة في البلاد، وتظل دراسات عامة تجرى من قبل منظمات عالمية هي الملاذ الوحيد للباحثين عن معلومات تتعلق بمشكلة الانتحار.

الضمان الاجتماعي في لبنان لا يغطي تكلفة الصحة النفسية وهو ما يمنع الكثيرين من الحصول على الرعاية في هذا الجانب.

في  هذا السياق، تشير جويل جابر إلى "أهمية بناء استراتيجية تطال الصحة النفسية للمجتمع تمنع تدهور الصحة النفسية وتبني شبكات أمان اجتماعية ضد الخطر الذي يهدد المجتمع بشكل عام"، وتضيف أن الضمان الاجتماعي في لبنان "كقطاع عام لا يغطي تكلفة الصحة النفسية ولذلك هناك قسم كبير من الناس لا يمكنها اللجوء إلى هذه الخدمات حين ترغب بذلك لأنها خدمات مكلفة في القطاع الخاص"، لا سيما وأن الدراسات تشير إلى إمكانية تخفيض حالات الانتحار المحتملة إذا ما توافر الطب والعلاج والدعم النفسي.