22-مايو-2019

لوحة "Gassed" لجون سنغر سارغنت

لطالما كانت العلاقة بين الدولة والجسد مبحثًا علميًا وفلسفيًا مثيرًا للاهتمام لمن أراد أن يترك نفسه لطرق باب الفهم فيهما، أو لمحاولة وضع يده على طبيعة تمثلات كل منهما في الآخر؛ فالجسد ليس فقط حقيقة بيولوجية، بل حقيقة ثقافية أيضًا، بما تسبغه عليه الأنظمة الاجتماعية والقيم الأخلاقية.

الجسد ليس فقط حقيقة بيولوجية، بل حقيقة ثقافية أيضًا، بما تسبغه عليه الأنظمة الاجتماعية والقيم الأخلاقية

يُعنى هذا المقال بمحاولة رصد فكرة العلاقة بين الجسد والسياسة من خلال مقاربات فلسفية، في إطار ما يحدث لهذه العلاقة من تحولات عنيفة في الثورة على النظم السياسية، وفي الهزيمة أمامها، وتمظهرات ذلك في الحالة المصرية كنموذج واضح من الشارع العربي.

اقرأ/ي أيضًا: تاريخ الاستمناء.. أو الجسد كمدينة ملاهي!

في علم السياسة قام العديد من العلماء بطرح نظريات حول الجسد، منها على سبيل المثال تشبيه قيام الحكومة الحديثة في بلد ما بتنظيم وضبط مؤسساتها في إطار نظريات العقد الاجتماعي، بنظام الحمية الغذائية للإنسان، كما وصف ذلك براين تيرنر في كتابه "نظرية الثقافة والمجتمع".

وفي منتصف سبيعينات القرن الـ20، اعتُبر ميشيل فوكو من أهم من قدموا مفهومًا جديدًا عن "السياسة الحيوية" المعنية بتحليل العمليات السياسية بناءً على بيولوجيا السلوك والنظرية والتطور، من خلال إشاراته إلى تركيبة جديدة لعلاقات السيطرة للسلطة، على الجسد الإنساني، باسم الحفاظ على حياة الإنسان، من خلال تدخلها في حياته في الولادة والتوثيق والأوراق المدنية والعقاب والسجن.

نشأة فكرة "الجسد السياسي"

نشأت فكرة الجسد السياسي عند الإغريق في بادئ الأمر، ثم انتقلت إلى الشرق، وتجلت عند إخوان الصفا، الذين تأسست فلسفتهم بشكل كبير على الفلسفة الفيثاغورية، من خلال رؤية الجسد الإنساني صورةً ومثالاً للجسد الكوني، ثم رأوا في الجسد السياسي صورة الجسد الآدمي، وهو تناص يعبرون عنه بأكثر من طريقة في رسائلهم.

أما ابن خلدون، فقد قال بأن الدولة كائن له جسد، يمر بكل ما يمر به الجسد الآدمي من مراحل نمو. بينما اهتم جان جاك روسو في الفكر الفرنسي الغربي بتوضيح المغزى من إنشاء الجسد السياسي، الذي رآه ضرورة لتحقيق رفاهية أعضائه والحفاظ عليهم.

وفي تحليله لأسباب قيام الثورات، رأى أرسطو أن "النمو غير المتناسب لبعض الطبقات في المدينة، يسبب الانقلابات السياسية"، بينما يرى هيجل أن الدولة تصبح كيانًا له إرادة مستقلة عن إرادة مواطنيه، ليس بالمعنى الديني الميتافيزيقي، وإنما بما تمثله من تاريخ ومسيرة للشعب. وظلت هذه الفكرة تتعاظم حتى اصطدم العالم بهتلر، الذي كانت فلسفته تمثل طغيانًا للدولة على المجتمع والفرد.

أما أبلغ ما قيل عن الجسد السياسي من وجهة نظري، فهو ما قاله روسو من أن "الجسد السياسي كالجسد الآدمي، ما إن يولد حتى يبدأ رحلته إلى الموت، إذ يحمل في داخله أسباب هلاكه"!

من هنا جاءت فكرة تقديس جسد الزعيم في الدول الشمولية ولدى الأنظمة الديكتاتورية، وفي شكل ومظاهر الانتقام من المعارضين السياسيين، كما يحدث هذه الأيام خلال تنفيذ أحكام الإعدام بالسعودية مثلًا، حيث تم تعليق أحد المعدومين مصلوبًا على أحد الأعمدة. 

ومن هنا أيضا تبنت بعض الدول فكرة الهيبة والحفاظ على الاستقرار من خلال صحة الزعيم، وهي حالة حدثت في مصر إبان حكم حسني مبارك، أما تجلياتها الأكبر فكانت في الجزائر، حيث تحول بوتفليقة في مرضه إلى دمية تسيرها الطغمة المستفيدة من بقائه، قبل أن يتمرد الشعب على هذا الوضع.

حتى في الدول الديمقراطية، يبدو أيضًا فكرة التباهي بصحة الرئيس وشبابه أمرًا حيويًا، كما كان الحال إبان فترة حكم جون كينيدي للولايات المتحدة.

الجسد محل للسيطرة ومقاومة السلطة

يُنظر إلى جسد الإنسان في حد ذاته كحيز تمارس عليه السلطة والجماعة أو الدولة سيطرتها، ويبقى تحريره منها وسيلة لتمكين الفرد، كي لا يكون لأحدٍ هيمنة عليه سوى إرداته الذاتية، فبدلًا من التركيز على الجسد السياسي، كما وُجد في كتابات الفكر السياسي الكلاسيكي، اتجهت النظرية السياسية الحديثة إلى التركيز على الجسد الفردي، ودلالة وجوده السياسي، من خلال دراسة الجسد في مقاومة فكرة وجوده كتابع للجسد السياسي، بلا أي اعتبارات لإرادته السياسية.

وفي الحالة المصرية كنموذج، حين يمتلك الجسد الفردي إرداته الذاتية، فإنه يلتحم مع إردرات الآخرين ممن يشبهونه، مشكلين قوة ضاغطة على السلطة، كما حدث في كانون الثاني/يناير 2011، حيث حاول المجموع الشعبي تشكيل جسد سياسي موازي للجسد القائم بالفعل، في محاولة لإثبات الوجود. 

لكن ما حدث لاحقًا، وهو تمظهر من تمظهرات "الانسحاب" الجسدي من الحياة السياسية العامة في مصر، هو التركيز على الجسد الفردي بصفته أولى وأهم من الجسد السياسي العام. وبات التركيز على الفرد محاولة من محاولات الهروب من العجز عن الانخراط في الشأن السياسي العام، أو هروبًا من التعايش مع الهزيمة الحالية.

على سبيل المثال، من الأفلام التي تحدثت عن وقوع جسد الفرد وإرداته تحت سيطرة السُلطة، هناك فيلم "شيء من الخوف" الذي أخرجه حسين كمال. وهو من الأفلام بالغة الأهمية في هذا الشأن. 

هذا الفيلم، الذي أنتج عام 1969، استبطن نقدًا سياسيًا للسُلطة في التورط الصاخب للجسد السياسي في الحياة الإنسانية. ومن أهم المشاهد الذي عبرت عن ذلك، إعادة إحياء الأجساد في مشهد فتح البطلة فاطمة (الممثلة شادية) لهاويس الماء، لتشرب القرية العطشى لترد لها الروح بإرداة الفرد الذي يتحكم في الجسد الشعبي العام ويفصل إرادته ويسحقها، ويعتبر نفسه مصدر القوة الأوحد المستحق للطاعة.

ولعل أحدث الحالات التي برزت فيها عناية الجسد الفردي بعيدًا عن الجسد السياسي، هو خروج باسم يوسف مقدم البرنامج السياسي الساخر فيما سبق، ليقدم برنامج غذائي! 

وباسم بما يمثله حضوره السابق، لا يمكن فصله عما آل إليه هذا الحضور دون نظرة متأملة، ترى في الانسحاب من المشهد السياسي إلى مشهد آخر، يُعنى بالجسد؛ حالة من الحالات التي تحدث عنها هربرت ماركيوز، حين قال إن "الذات تُسلب من دورها الأخلاقي والسياسي والجمالي، حين يقتصر دورها على الملاحظة الخالصة والقياس والحساب فقط".

أبلغ ما قيل عن الجسد السياسي ما قاله روسو: "الجسد السياسي كالجسد الآدمي، ما إن يولد حتى يبدأ رحلته للموت، إذ يحمل في داخله أسباب هلاكه"

وليس للأمر أي علاقة بأي مزايدات شخصية على باسم يوسف، وإنما هو من باب قراءة نموذجه من خلال المشهد العام، وما تُرك فيه من مساحات للحركة وحرية التعبير معدومة وقاصرة على مجموعة من الهوامش المطروحة، التي لا علاقة لها بالمتن السياسي الحقيقي المعني بالتغيير، وهي الصورة التي تورط فيها الجسد الشعبي، بعيدًا عن الجسد السياسي للدولة، التي أصبحت تتحرك فوق الحريات والقانون بمرونة شديدة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الجسد والعمارة.. سجن الأنثى واستلاب الحرية

الصدور والخصور كموقف سياسي