هنا ترجمة لنص الكاتب الليبي البريطاني هشام مطر، كتبه خلال العدوان الإسرائيلي على غزة في 2009. النص الذي لا يزال طازجًا كأنما يقول ما أشبه الليلة بالبارحة!


على مدار الثلاثة والعشرين يومًا التي تَوالى فيها القصف الإسرائيلي على غزَّة، كنت أستيقظ في الرابعة صباحًا وأجلس لتصفُّح صحيفة اليوم السابق، ثم أقرأ الأخبار على الإنترنت، ثم أقصد بائع الصحف المحلي وأبتاع صحيفة اليوم. فجأة يحين وقت الغداء. لم أكن لأستطيع الرد حينما أُسأَل عن رأيي أو: "أليس فظيعًا؟" كنت أقضي وقتًا طويلًا على الإنترنت أشاهد الصور ومقاطع الفيديو وأقرأ المقالات وأستمع إلى المقابلات. وفي الرابع من كانون الثاني/يناير، بعد أسبوع على بدء القصف، أرسل إلىَّ صديق مقالًا كتبه عن الهجوم. قرأته وكتبت رسالة إلكترونية طويلة أخذت أحرِّرها وأراجعها كل يومين. في النهاية لم أرسلها قطُّ.

لو قُيِّض لمهنة غسان كنفاني القصيرة على غزارتها أن تمتد أكثر لكانت موهبته المضيئة أشدَّ سطوعًا

هاتفتُ أمي وكلما قالت شيئًا عن غزة غيَّرتُ الموضوع. كان في أثناء أحد هذه الأحاديث أن وقعت عيني على اسم على الرَّف: غسان كنفاني. لم أقرأه منذ الصبا. قلَّبت مجموعته القصصية حتى صادفت قصة بعنوان "ورقة من غزَّة". قرأتها، ونسختها وأخذتها معي، وكان من المزمع أن أقدِّم قراءة في جامعة كيمبردج. لم أقرأ القصة، ولكن بدا أنني كنت بحاجة إلى أن تكون هناك في جيبي.

اقرأ/ي أيضًا: ساعة غسان كنفاني

في تلك القصة التي كتبها كنفاني حين كان بالكاد قد بلغ العشرين من عمره، يبدو الأمر مخيفًا على نحوٍ قاتم أن يتكهَّن الكاتب بالفاجعة التي ستحلُّ به وبابنة شقيقته بعد سنوات. "ورقة من غزَّة" مكتوبةٌ بصوتِ فلسطينيّ يعود إلى حيِّه المدمَّر. كلُّ ما تركه في غزَّة بعد الاعتداء هو أمُّه وزوجة شقيقه وأبناؤها الأربعة. يخبر صديقه، المرسَل إليه الذي ينتظره بشوق في ساكرامنتو: "لكنني – أيضًا - سأتحرَّر من هذا الخيط الأخير. هناك، في كالفورنيا الخضراء البعيدة عن رائحة الهزيمة التي تزكم أنفي منذ سبع سنوات". كان قد قُبِل في فرع الهندسة المدنية في جامعة كالفورنيا. يشتري "رطلا من التفاح" لابنة أخيه الجريحة في المستشفى. لا عزاء للفتاة. تبدو جراحها جغرافيا الاحتلال الجديدة. تُغيِّر الإقامةُ القصيرة خطَطَه تمامًا ويقرِّر البقاء في غزَّة "بين أنقاض الهزيمة البشعة".

إنَّ الآلية التي تقود بها الرسالةُ كاتبَها (والقارئ) إلى هذه النتيجة تكشف بحتميَّةِ سيرورةٍ طبيعية عن الواقع الشخصي لرجل غصَّت أنفاسُه بالهزيمة. تحمل القصة مسحة الحكي بغض النظر عن راويها. وكسائر الرسائل الجيدة، لا تتوجه هذه الرسالة إلا إلى متلقيها. إنَّ كتابة قصة قصيرة تحوِّل القارئ إلى مُعتدٍ وجاسوس، هي بالطبع خدعة أدبية ومؤشِّر على موهبة كنفاني الاستثنائية. في الحقيقة، إنني على قناعة بأنه لو قُيِّض لمهنة هذا الكاتب القصيرة على غزارتها أن تمتد أكثر لكانت موهبته المضيئة أشدَّ سطوعًا.

غسان كنفاني (1936 - 1972)

وُلِد في عكَّا بفلسطين في عام 1936. وبحلول عام 1948 أُجبِر وعائلته على الفرار إلى لبنان. في عمر قصير – توفي كنفاني عن عمر ناهز السادسة والثلاثين – كتب زهاء عشرين كتابًا راوح بين القصص القصيرة والروايات والمقالات، ودراسة في الأدب الصهيوني، وأخرى في الأدب الفلسطيني تحت الاحتلال. تمثِّل أعماله أحد أهم التطورات في الأدب العربي الحديث. في عام 1967 أصبح عضوًا في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وهي حركة سياسية ماركسية. وفي عام 1972 بعد ستة عشر عامًا على صدور "ورقة من غزَّة"، قرَّر الموساد، وكالة الاستخبارات الإسرائيلية، ومن دون محاكمة أنَّ غسان كنفاني كان ضالعًا في هجوم على مطار اللُّدّ. كان في ذلك الحين قد استقر به المقام في بيروت مع زوجته الناشطة الدنماركية في مجال حقوق الطفل وطفليهما. زرع الموساد قنبلة في سيارته. لميس نجم، ابنة شقيقة كنفاني، والمفضَّلة لديه، التي أهداها كتابه الأوَّل، كانت تجلس إلى جانبه. كلاهما قضى نحبه في الانفجار.

من العسير عدم رؤية اغتيال غسان كنفاني كمحاولة أخرى لطمس الأدب الفلسطيني، وتأكيد الادعاء الذي أدلى به السياسي الإسرائيلي إيغال آلون بعد عام 1967، بأن الفلسطينيين ما عاد لهم وجود، لأنهم لو وُجدوا لأنتجوا أدبًا.

في 29 كانون الثاني/يناير عام 2009، بعد أحد عشر يومًا على توقف قصف غزة الأخير والمستمر، ظهر "أدب" جديد. نشرت صحيفة "ناشيونال نيوز" الإسرائيلية مقالًا كتبه جندي إسرائيلي وقد عنونه بـ"رسالة إلى غزَّة." اختار المؤلف حجب اسمه الأخير، كل ما لدينا هو "يشاي (جندي احتياطي)." بمناورة أورويليَّة، يخاطب يشاي الفلسطينيين الذين سلبهم منزلهم مؤخرًا وسطا عليه، بكلمة بسيطة واحدة: "أهلا". في نقطة ما، يشرح أنه "بالرغم من الفوضى العارمة التي كان عليها منزلكم... بذلنا قصارى جهدنا لمعاملة ممتلكاتكم باحترام... حتى إنني غطيت الحاسوب بقماش حماية له من الغبار". يريد يشاي من ضحاياه المجهولين أن يعرفوا: "إنني على وفاقٍ تام مع ما فعلته بلادي وما فعله جيشنا وما فعلته أنا. ومع ذلك، أحسُّ بألمكم".

من العسير عدم رؤية اغتيال غسان كنفاني كمحاولة أخرى لطمس الأدب الفلسطيني

رسالة الجندي هناك فقط لتخدم الجندي، ففيها يحاول محو جرائمه بإنسانية زائفة، ولكنه بفعله هذا يفضح الغيرة النرجسية التي يشعر بها كل ظالم: من أكثر السمات المزعجة التي يتسم بها المستعبِد هو أنه نادرًا ما يكون راضيًا عن سلب ضحاياه حقوقهم وممتلكاتهم، ولكنه يرغب أيضًا في الحطِّ من طبيعة حزنهم الخاصة.

اقرأ/ي أيضًا: إلى كنفاني... رحلت خفيفًا قبل أن تكبر الصحراء

في قصة كنفاني نكتشف عزلة الحزن، وكم هي طريقٌ بطيئةٌ ومظلمة. وهنا ندرك كيف تتجاوز النبوءة المُضمَرة في النص حياةَ غسان كنفاني ولميس نجم وموتَهما وحتى قاتلهما – دعونا نطلق عليه يشاي – الذي لم يستطع الحطَّ من حزنهما ولا تعزيتهما، وكيف تشير بطريقة أكثر تأثيرًا ربما إلى حياة غزَّة وحصارها، وهي بطلة القصة الحقيقية التي كانت في عام 1956 حينما كتب كنفاني قصته أقل بترًا (كلمة تتعقَّب النص) من غزَّة التي خلَّفها وراءه الهجومُ الإسرائيلي الأخير.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"الكنفانيون": كل الخديعة للجماهير

غسّان كنفاني.. العودة إلى الدرس الأول