27-يونيو-2016

إن قصة جيري إليسورث لهي خير دليل علي أن المرء لا يحتاج لأي شهادات علي الإطلاق ليتعلم ويصنع أشياء غاية في التعقيد ويحقق إنجازات قد يعجز عنها معظم حملة الشهادات

بينما يقف العالم في مختبره متأملًا النظريات ليرى إن كانت صحيحة أم لا وبينما يتعامل الفني مع التقنيات الحديثة لتساعده في عمله، يقف المهندس بصفته حلقة وصل لا غنى عنها بين أقصى الطرفين فإليه تعهد مهمة تحويل المبادئ العلمية في الكتب إلى أداة تقنية مادية ملموسة تساعد التقني في عمله خصوصًا، وتساعد كل الناس في حياتهم عمومًا.

وعبر التاريخ حقق الكثير من المنتسبين لمجال الهندسة أمجادًا تاريخية، بعضهم في عصره والبعض بعد وفاتهم بقرون، فأحيانًا لا تعرف البشرية قيمة الشخص إلا بعد رحيله. ولكن الحديث اليوم لن يكون عن أحد العباقرة المنسيين من الماضي، وهم كثر، بل عن مهندسة تعيش في عصرنا الحالي ولا يعرفها الكثيرون رغم تحقيقها لإنجازات رائعة، حديثنا اليوم عن مهندسة الإلكترونيات التي لا تحمل أي شهادات مدرسية أو جامعية علي الإطلاق جيري إيلسورث!

ولدت جيري إيلسورث في أوريجون بالولايات المتحدة ﻷب يعمل في مجال تصليح السيارات وتوفيت والدتها بعد ولادتها بعام واحد فقط. وكانت أغلب سكان المدينة التي تسكنها جيري إيلسورث يعملون بالزراعة، ولا تحتوي مدينتها علي أي شيء له علاقة بالإلكترونيات سوى محل تابع لراديو شاك وهو (كما ذكرت جيري إيلسورث في حوار معها) لا يحتوي أي شيء يساعدها على تعلم مبادئ الإلكترونيات أو الكهرباء على الإطلاق نظرًا لكونه يبيع أجهزة للإستعمال الاستهلاكي فقط.

بدأ اهتمام جيري إيلسورث بالإلكترونيات في سن الثامنة حينما كانت تقوم بتكسير العديد من الأجهزة واللعب التي يشتريها والدها لها لتعرف ما بداخلها، الأمر الذي دفع والدها لوضع سلة مهملات كبيرة في محطة الوقود التي يعمل بها طالبًا من الزبائن أن يضعوا أجهزتهم العطبة فيها حتي يستطيع إرجاعها إلى طفلته الصغيرة لتلهو بها في المنزل.

سريعًا بدأ اهتمام جيري إيلسورث بالإلكترونيات والكهرباء ينمو ومعه نمت أيضا متاعبها الشخصية، ففي الوقت الذي كان قريناتها من الفتيات يلعبن بالعرائس كانت جيري تقوم بتفكيك وتركيب المكونات الإلكترونية وتحاول صناعة أشياء جديدة بها. نجحت بعض تجارب جيري إيلسورث ولم تنجح أخرى، قامت بتجربة بعض الأشياء في المنزل دون مراعاة لكثير من قواعد الأمان الواجب مراعاتها عند العمل بالدوائر الكهربية ما تسبب في أضرار لأخيها وأبيها بل ولها شخصيا.

ولكن المشاكل التي واجهت جيري إيلسورث لم تكن بالمنزل فقط بل انتقلت لمدرستها أيضا؛ حيث كانت عقليتها المختلفة عن باقي أقرانها سببًا في سخريتهم منها وإهانتها باستمرار، ورغم إن ألبرت إينشتاين يقول :"إن العقول العظيمة تواجه معارضة هائلة من أصحاب العقول المحدودة"، إلا إن لكل إنسان قدرة محدودة على الاحتمال، وفي حالة جيري إيلسورث الصغيرة كان الكم المتواصل من الاستهزاءات فوق قدرتها على التحمل، لتقرر في أحد الأيام أن تضع حدًا له حتى لو جعلها ذلك تخرج عن طبيعتها الهادئة المنعزلة الخجولة. فقامت جيري إيلسورث بصفع أحد الطلاب المستهزئين بكتابها، لتقرر إدارة المدرسة عقابها بالفصل المؤقت وكانت هذه نقطة تحول مهمة في حياتها إذ إنها حين عادت من الفصل فوجدت بعض الطلاب الأشقياء معجبين بتصرفها، وأمام شعبيتها المكتسبة الجديدة قررت استخدام معرفتها كهاوية إلكترونيات في إبهار أصدقائها الجدد بصناعة أشياء إلكترونية يمكن استخدامها للمزاح أو تدبير المقالب في المدرسة، كمحاولة اختراق الإذاعة المدرسية الداخلية وإذاعة أي شيء آخر يريده الطلاب على سبيل المثال.

 

ما بين اهتمام جيري إيلسورث المتزايد بالإلكترونيات ومعرفتها بالميكانيكا الناجمة عن مجال عمل أبيها، واكتشافها لإمكانية أن يصنع المرء أشياء رائعة بيديه تثير إعجاب أقرانه المراهقين بدون أن يسخروا منه، قررت جيري إيلسورث ترك المدرسة قبل الحصول على الشهادة الثانوية وخصصت وقتها لتعلم المزيد من الأشياء المتعلقة بسيارات السباق، وذهبت تطارد كل من له خبرة في هذا المجال وتقرأ كل الكتب التي تقع تحت يديها حتى صارت تعمل في مجال صناعة سيارات السباق السريعة وبدأت تصمم نماذج جديدة لتلك السيارات وتبيعها.

اقرأ/ي أيضًا: الرجال الآليون... اختلال السلطة البشرية

في سن الـ21 -ولرغبة جيري إيلسورث في تقليل المخاطر الصحية الناجمة عن عملها- قررت جيري تغيير وجهتها من سيارات السباق إلي بيع الحواسيب، فقامت جيري إيلسورث هي وأحد زملائها عام 1995 بفتح متجر صغير لبيع وتجميع الحواسيب. الأمر الذي لم يستمر طويلًا لدخولهما في خلافات قانونية حادة انتهت بإغلاق المتجر لتقرر جيري إيلسورث إنشاء متجر خاص بها وحدها باسم "الحاسبات بسهولة" لتحقق نجاحًا جعلها تنشئ أربعة فروع أخرى قبل أن تقرر بيع سلسلة المتاجر كلها عام 2000، لتعود إلي مطاردة شغفها القديم. انتقلت إلى واشنطون وحاولت الالتحاق بإحدى دورات تصميم الدوائر الكهربية المقدمة في إحدى الجامعات الصغيرة هناك قبل أن تترك الدورة بإرادتها بعد أقل من سنة لرفض المحاضرين إجابة أسئلتها.

لكن أحد أكبر إنجازاتها علي الإطلاق كان في عام 2004 حينما قامت بمفردها ببناء حاسوب كومودور 64 من البداية للنهاية وجعلته داخل رقاقة إلكترونية صغيرة داخل عصا التحكم بالألعاب (Joystick) الأمر الذي مثل إعادة إحياء لشعبية حاسوب الألعاب الشهير في فترة الثمانينيات والتسعينيات الذي توقف تصنيعه بعدها مع التطور الفائق لتقنيات وإمكانيات الحواسيب الجديدة. ما فعلته جيري من تطوير لهذا الحاسوب جعله من أكثر الهدايا مبيعا في فترة عطلات أعياد الميلاد حتى وصلت مبيعاته إلى 70 ألف جهاز في اليوم الواحد وبيع منه أكثر من نصف مليون قطعة في الولايات المتحدة وأوروبا!

ذاع صيت جيري إيلسورث في الأوساط التقنية فبدأت المجلات تكتب عنها وبدأت البرامج الإذاعية تستضيفها وانهالت عليها عروض الوظائف من شركات البرمجيات وشركات صناعة أجهزة ألعاب الفيديو، وتلقت جيري إيلسورث دعوات للتحدث في المؤتمرات وإلقاء المحاضرات في العديد من الجامعات، وهي التي لا تحمل أي شهادات على الإطلاق، لعل من أشهرها محاضرتها عن تجربتها مع التعلم الذاتي التي ألقتها في جامعة ستانفورد. كما نالت جيري إيلسورث شهرة واسعة في المنتديات التقنية التي ترفع شعار "اصنعها بنفسك" بوصفها المرأة التي تستطيع صناعة أي شيء إلكتروني مهما كانت صعوبته.

 

في عام 2009 أنهت جيري إيلسورث بناء معمل منزلي لصناعة الرقاقات الإلكترونية وقامت بعرضه على الجمهور في أحد المعارض التقنية. وفي عام 2010 نشرت دليلًا مفصلًا حول كيفية صناعة ماسح ضوئي يمكن استخدامه في المطارات من قبل إدارات أمن النقل باستخدام أجزاء مستخدمة من هوائيات الأقمار الصناعية. أنشأت جيري قناة على موقع يوتيوب وشرحت عليها العديد من الدروس الموجهة للمبتدئين والمتخصصين على السواء في تعلم الإلكترونيات وصناعة الدوائر الكهربية والمكونات الإلكترونية (مثل صناعة الترانزيستور) في المنزل.

تنصح جيري إيلسورث كل من يريد تعلم الإلكترونيات وأساسيات الدوائر الكهربية، إلى جانب الحصول عل المعدات والمكونات اللازمة والإطلاع على أكبر قدر ممكن من الكتب والتواجد مع أشخاص مهتمين بهذا المجال، بالأشياء الخمسة الآتية: عدم الخوف من إجراء التجارب، الاستمتاع بها، الاحتفاء بارتكاب الأخطاء نظرًا لكثرة حدوثها، وعدم الإصغاء للمثبطين وعدم الاستسلام.

وقد كانت جيري إيلسورث نفسها مثالًا عمليًا لهذه النصائح حينما تم فصلها بعد أقل من عامين علي تعيينها في شركة "فالف" لصناعة أجهزة الألعاب الشهيرة فأعتبرت قرار فصلها فرصة لتجربة أشياء جديدة.

إن قصة جيري إيلسورث، التي ترأس حاليًا شركة من تأسيسها تتخصص في صناعة ألعاب الواقع الافتراضي، لهي خير دليل على أن المرء لا يحتاج لأية شهادات على الإطلاق ليتعلم ويصنع أشياء غاية في التعقيد ويحقق إنجازات قد يعجز عنها معظم، إن لم يكن كل، حملة الشهادات على مستوى العالم!

لمزيد من المعلومات شاهد/ي: 1،2،3

اقرأ/ي أيضًا:

 

هايبرلوب.. القطار الكبسولة
البشرية في خطر .. عصر "ما بعد المضادات الحيوية"