يعاني الكثيرون من آلام الغربة وما تسببه من اكتئاب، يبكون مرارة الوحدة ويذوقون ألم الفراق، قليلون اختاروا الهجر، وكثيرون أجبروا عليه، يقول صديقي أشعر أنني وحيد تمامًا، أنهي عملي وأذهب إلى المنزل بلا رفيق أو زوجة أو صاحب، عندما تضيق بي الهموم، لا يسعني سوى الحديث مع الأصدقاء القدامى عبر الإنترنت، هكذا مثلك، حتى هؤلاء تأخذهم الدنيا وتبعدهم أكثر مما هم بعداء، أشتكي إليهم ويا ليت الكلمات تعني شيئًا، أتدري؟ في أحيان كثيرة أريد أن أستبدل كل تلك الكلمات التافهة بحضن صديق، أو بكاء بين أكف حبيبتي، أستبدل شكواي لسنة كاملة مقابل النوم ليلة في أحضان سريري القديم، لا أستطيع التأقلم ولا التعايش، الناس هنا لا يشبهونني ولا أشبههم، ينظرون لي نظرات الغريب، اقرأها في عيونهم، لن أفتري عليهم فهم صالحون، يعاملونني جيدًا، يبالغون في الترحاب، يعاملونني كغريب، أتعمد الحديث بلغتهم المحلية لربما يظنونني منهم ولكن لا أمل، عندما أذهب إلى التسوق أجد الفاكهة بلاستيكية، أشتاق إلى فاكهة الفلاحين البسطاء ونداء البائعين في السوق العشوائي، أتصدق؟ أشتاق إلى زحام الطريق، هل تُرى لأن الطرقات هنا فارغة؟ فارغة من كل شيء إلا البيوت والسيارات وأعمدة الإنارة وكل ما لا يملك روحًا، كل شيء هنا منظم ومنمق ونظيف، نظيف كمستشفى للأغنياء، لا أريد أن أشعر بالمرض، لا أحب تلك المثالية، أريد القليل من الفوضى، القليل من الألم، القليل من الإنسانيات، أريد أن أشعر، لا أحد يبالي بالآخر هنا، الجميع مشغولون في جمع الأموال، وشرب النبيذ، وإقامة علاقة جنسية مع إحدى العابرات في آخر الأسبوع!

قلت له أنت حقًا تشعر بالاغتراب وأنت فيه، فما بالك بمن يشعر أنه غريب في موطنه، أين لنا بوطن بديل؟ أنا محبوس بالداخل، أتدري شعور السجن؟ آسف، أعلم أنك تعرفه جيدًا فقد ذقته من قبل، لماذا تشتاق إلى بلد حبسك في سجونه؟ أمرك غريب يا صديقي! أتدري لو أملك قرار الفرار، لهربت حالًا، ولكني هنا مثلك، أبادلك الشعور، هيئتي تشير بالغرابة، عندما أنطق بالعربية المحلية في منطقتي الريفية يتعجبني الناس، حتى أفكاري لا تناسب هذا المكان، لا أستطيع أن أبوح بها، أتتخيل أن الأفكار يمكن أن تعرضني للقتل أو الحبس والتعذيب؟ أتتخيل أن الأفكار تدفع الوصاة إلى نبذ الموصى عليهم واضطهادهم؟ أنا غريب مثلك ولربما أكثر غرابة إلا أنني لا أملك حق الانتقال، منذ أن رحلت والأوضاع تزداد سوءًا والحياة تضيق علينا شيئًا فشيئًا، الهواء أصبح ثقيلًا على الجميع، والموت قريب.. قريب جدًا.

رد علي حزينًا، هون عليك، جئتك تواسيني فأواسيك، لماذا يحدث كل هذا؟ بماذا أخطأنا حتى نعيش تلك الحقبة المظلمة؟ كي نعاصر الموت أحياء؟ يقولون إن الجحيم نصيب الجناة والعصاة والظالمين، فأي جحيم أسوأ من هذا الذي نحياه؟ أتعجب من هؤلاء الذين يكتبون يوميًا على الفيسبوك "رعب أكثر من هذا سوف يجيء" ماذا تظنون، لم تعد عقولنا قادرة على احتمال المزيد، أعلم أننا لم نصل إلى النهاية بعد، ولكن كفى، لقد اكتفيت، اكتفيت من كل شيء حتى ملذات الحياة الضعيفة الفانية، كل ذلك إلى زوال، لذة وقتية غبية تدفع الإنسان لفعل المستحيل وكل الأفعال اللاأخلاقية لنيلها وفي النهاية يملّها كغيرها من الأمور، الإنسان كائن غبي، لم يستطع تطوير عقله بالشكل المناسب ليتعايش مع مصائب الحياة، أظن بالذكاء والوعي ينجو؟ هاهو يتعذب في كل ثانية حتى الموت.

أقول له أجمعت كل هموم العالم وكل أزمات الإنسانية فينا؟ معك حق، فما كل إنسان إلا عالم مستقل يظن ألا سواه، ما أغباه، ما أغباك، ما أغباني، حمق بيّن لا مثيل له، كيف النجاة من تلك الوطأة البغيضة؟ أنكمل الطريق في وطن بديل لا نشعر فيه بشيء أم نكمل في وطن يعذبنا كل يوم، ولم يتبق له في القلب إلا الذكريات القديمة، من أين لنا بوطن بديل؟ أين نجد أنفسنا بحق؟ أين نشعر بالسعادة؟ لقد آلمت عقلي وروحي، سأذهب لأرتاح قليلًا، ربما أرتاح، وفي الصباح الباكر، سأبدأ في البحث عن وطن بديل، وإن وجدته.. سأخبرك بإحداثياته على خطوط الخريطة المتغيرة في كل يوم.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ثلاثة مقاطع لابتذال الانتحار

من هنا تبدأ الثورة