ألترا صوت – فريق التحرير

يخصّص "ألترا صوت" هذه المساحة الأسبوعيّة، كلَّ إثنين، للعلاقة الشخصية مع الكتب والقراءة، لكونها تمضي بصاحبها إلى تشكيل تاريخٍ سريّ وسيرة رديفة، توازي في تأثيرها تجارب الحياة أو تتفوّق عليها. كتّاب وصحافيون وفنّانون يتناوبون في الحديث عن عالمٍ شديد الحميميّة، أبجديتُهُ الورق، ولغته الخيال.


تمام هنيدي شاعر وكاتب من سوريا مقيم في السويد، درس في كليّة الإعلام في جامعة دمشق قبل خروجه الاضطراري من سوريا في آب/أغسطس 2012. له ديوانان شعرّيان: "وشوم الضباب"، و"كما لو أَنِّي نجوت". نشرت مجموعة من نصوصه في عدد من الدوريات العربية والسويدية، وترجمت بعض قصائده إلى الإنجليزية والسويدية والفلمنكية والإيطالية والفرنسية. حاصل على منحة اتحاد الكتاب السويديين للتفرغ الإبداعي.


  • ما الذي جاء بك إلى عالم الكتب؟

كان حظي طيبًا أنني ولدتُ لعائلةٍ قريبة من الكتاب، وعلى الرّغم من أنّ مكتبة البيت لم تكن تحتوي على كتبٍ مواكبة للزمن أو للحداثة، إلى حدّ ما، إلا أنّها حوت قسمًا لا بأس بهِ من الكلاسيكيات. وكان من بين الأسماء العربية التي احتوت المكتبةُ على كتبٍ لهم، طه حسين ونجيب محفوظ وإحسان عبد القدّوس والمنفلوطي وعبد الرحمن منيف وسعد الله ونّوس، والمتنبي والمعري وأبي تمام. أما الكتّاب من غير العرب، فقد كان بينهم ماركيز وتولستوي وتشيخوف وغوغول وإيزابيل الليندي وويل ديورانت وماركس وناظم حكمت. كان أبواي يقضيان وقتًا من النهار في القراءة، وقد نقلا هذه المزية إلى أخواتي وإخوتي قبلي.

لم تختلف المكتبةُ بوجهٍ عام عن توجّهات أصحابها الفكرية، ما جعلها مشابهةً لمكتباتِ القوميين العرب ذوي الميول اليسارية، لكنها، رغم ذلك، وفّرت فرصةً ممتازة للتعرف إلى بعض الكلاسيكيات، وبالتالي وفّرت فرصةً للتقارب مع الكتب بصورةٍ عامة. بعد ذلك كان لا بدّ من عملٍ فرديٍّ للوصول إلى الكتب التي لم تكن أفكارُها حاضرةً في مكتبة البيت.

  • ما هو الكتاب، أو الكتب، الأكثر تأثيرًا في حياتك؟

في الحقيقة لا أعرف. لا أحبّ استخدام صيغة التفضيل عادةً، فبالنسبة لي أجدُ أنّ كلّ مرحلةٍ من حياتنا تحملُ مشاعر خاصة، قد لا تتشابهُ مع مشاعر مراحل أخرى. فلا يُمكنُ بحال نكران تأثير بعض الكتب عليّ في مرحلة الدراسة الإعدادية مثلًا، رغم أنّ قسمًا منها، أي من هذه الكتب، لم أعد أجد فيّ الطاقة على قراءة ولو بضعة صفحات منها في مرحلة الدراسة الجامعية، رغم أنّ سنوات أربع فقط تفصل طالب الصف التاسع عن طالبٍ في السنة الجامعية الاولى.

أهديت في طفولتي كتابًا سوفييتيًا، خاصًا بالأطفال (ويُشهدُ للسوفييت أنهم كانوا روّادًا في هذا المجال)، لم أعد الآن أذكرُ اسم كاتبه. لكنني أتذكرُ أنّ اسمَ الكتاب كان "الرسالة" وكان البطل اسمهُ "بانتيلييف"، وكان عسكريًا في الجيش السوفييتي، هذا كل ما يعلق في ذاكرتي من ذلك الكتاب، لكنني على الدوام أشعرُ بالامتنان لصديق أخي الذي أهداني أول كتابٍ في حياتي، في عيادته لي بعد إحدى جولات الأمراض الكثيرة التي تصيب الأطفال. اعتنيتُ بهذا الكتاب. كان الوحيد الذي أمتلكهُ وسط مئات الكتب الخاصة بالعائلة. حتى أنني كنتُ في فترةٍ أمسحُ الغبارَ عنه كلّما رأيتُهُ على إحدى الرّفوف، وأتركُ سواه!

الأطفال يفعلون مثل هذه الأشياء عادة.

  • من هو كاتبك المفضل، ولماذا أصبح كذلك؟

ما ينطبقُ على مسألة التفضيل بين الكتب، ينطبق على مسألة التفضيل بين الكتّاب. إذ أن هذه مسائل نسبية من وجهة نظري. وهي تعتمدُ بشكلٍ أساسيّ على المنظومة الفكرية للشخص في لحظة السؤال، وتعتمدُ على مزاجه في هذه المرحلة أيضًا، ماذا يحبّ هذه الأيام وماذا يكره!

في مرحلةٍ من حياتي كنتُ أحسُّ أنّ محمود درويش هو كاتبي المفضّل، ولديّ مبررات كثيرة لذلك. الآن، أحبّ بعضًا مما كتبَ محمود درويش، ولم يعد كاتبي المفضّل. مع تقدّم السن والتجربة يصيرُ لدى الإنسان قدرة على التفحّص فيما كان يعتبرهُ مُسلّماتٍ لا تُمسّ. لكنّ كتابًا كثيرين يرافقوننا في جلّ مراحلنا العمرية، استمراريتهم، وتواصلُ قدرتهم على اختراق مشاعرنا وأفكارنا على الدوام، يُشعرنا أنهم باقون، ومحمود درويش واحد من هؤلاء، لكنه ليس المفضل بالنسبة لي. شخصيًا أميلُ إلى القول إنهم كتاب باقون "إلى الآن".

لا أحبّ الكاتب الذي يتذاكى. لا أحبّ الكاتب الذي يعتبر أن القارئ أدنى منه. وعليه أن "ينزل" إلى مستواه ليلمسه. ولا أحبّ الكاتب الذي يكتبُ نصًا صعبًا من أجل الارتفاع بسويّة القارئ. لا أحبُّ التعاملَ مع المتلقي بهذه الطريقة، فهي تعكسُ بالنسبة لي، تضخمًا في تقديرِ الذات أولًا، وقلّة تقديرٍ للآخر ثانيًا، وكلّ واحدة من هاتين المشكلتين، كفيلة بأن تُسقطَ النّصّ، مع سقوط المنظومة الفكرية والنفسية لصاحبه. لستُ ممن يفصلون الكاتب عن نتاجه.

  • هل تكتب ملاحظات أو ملخصات لما تقرأه عادة؟

يتوقف ذلك على الشيء الذي أقرأه. في قراءة الأدب عمومًا قلّما أكتبُ ملخّصاتٍ أو ملاحظات، أحبُّ أن أقرأ الأدب لأجل المتعة. أقرأه من موقع الراغب بالمتعة، قبل الفائدة. لا أحبّ الذهاب إلى الأدب بداعي "طلب الفائدة". مع كلّ سطرٍ أقرأهُ ثمّة فائدة كبرى ولا شكّ، لكن هذا يحدثُ وأنا في طريقي إلى الاستمتاع. أرسمُ خطوطًا وأكتبُ ملاحظاتٍ حين أقرأ كتبًا أخرى، هي نفسها تندرجُ في خانة الدّراسات. أعاملُ النصّ بالطريقة التي يُقدّمُ فيها نفسهُ إلينا. إذا قدّم نفسهُ على أنّهُ دراسة، فيجب التعاملُ معهُ على هذا الأساس. أما أن يقدّمَ نفسهُ على أنّهُ صنفٌ أدبيّ أو فنّي، وألخّصهُ أو أكتبَ عنه، فذلك يقتلُ فيهِ مزية الاسترسال، الانسياب، الذي يصعبُ عليّ أصلًا قراءة الأدب بدونه.

  • هل تغيّرت علاقتك مع الكتب بعد دخول الكتاب الإلكتروني؟

يبدو أنهُ لا مناصَ من الدّخول في الحداثة. تأثّرت علاقتي نعم، للأسف. لستُ ممن يُفضّلون الكتب الإلكترونية، ولستُ ممن يهاجمونها أيضًا، أنا لم أشعر بالراحة في قراءتها وحسب. بدون مبرراتٍ "يوتوبية" كبرى عن الورق والكتب والـ والـ ...

حاولتُ كثيرًا التخففَ من الحداثة، حاولتُ الابتعاد عنها قدر استطاعتي، حتى أنني فكرتُ في السنةِ الماضية أن أستغني عن هاتفي الشخصيّ، واشتريتُ هاتفًا منزليًا قديمًا، وقررتُ أن يكون هو وسيلة اتصالي الوحيدة. ثمّ، بعد ذلك بأشهر، وجدتُ نفسي في الجامعة أدرسُ اختصاصًا في صلبِ التقنية، بل وأقرب إلى برمجتها وبنائها وإدارتها! لم يعد بالإمكان الابتعاد عن الحداثة، على الأقل إذا أراد المرء أن يعيش في دولةٍ من دول "العالم الأول"، الأمر صعب للغاية، ذلك أنّ الابتعاد عنها يعني انعزالاً مطلقًا عما يجري حولنا. قد لا يعني هذا لي الكثير لو أنني ما زلتُ أعيشُ في إحدى الدول العربية، كان الحصولُ على الكتاب العربي أكثر سهولة ويسرًا، الأمر هنا مختلف، فالكتبُ العربيةُ التي تصل إلى هنا شحيحة، والأقسام العربية في المكتبات السويدية، لا تُلبّي الحاجات، نظرًا لافتقادها للشخص الخبيرِ الذي ينتقي بعناية. لابدّ إذًا من الكتاب الالكتروني. لم يعد أمر الاستغناء عنه ممكنًا.

  • حدّثنا عن مكتبتك؟

عطفًا على ما سبق، قررتُ منذُ خروجي من سوريا أن أحظى بمكتبة. أردتُ استعادةَ شيء من الاستقرار المُفتقد. وبالفعل، بنيتُها شيئاً فشيئًا، بدأ بناؤها في الإسكندرية، إذ لم أُخرِج معي من سوريا سوى ديوان "سَقْط الزّند" لأبي العلاء المعرّي. كان أمرُ البناء في مصر سهلًا، بلاد كاملة تعيش على الكتب الورقية، ولديها ثقافة الكتاب والطباعة والنشر، عريقة وقديمة وأوراقُ كتبها المصفرّة مبهرة. انخفضت الوتيرة في السويد، غير أنها ظلّت مستمرّة، ساعدني امتلاكي لجواز سفرٍ سوريّ صالح للاستعمال ولدخول بعض الدول العربية في بداية مجيئي إلى السويد، بأن أزور المنطقة العربية أكثر من مرة، وفي كلّ مرةٍ أحملُ معي كتبًا منها، أردتُ بناء مكتبةً أحبُّها، اعتنيتُ بعناوينها، واشتريتُ بثمن "أمّهات الكتب" كتبًا أكثرَ وأحلى ليس هنالك ترف في مساحات البيوت، لتفردَ حائطًا كاملًا لعدد قليل من الكتب. بيوتُنا باتت أضيق بكثير، وعلينا استغلال المساحات بشكلٍ مثاليّ! حتى أيار/مايو الماضي، لم أشترِ خلال تواجدي في السويد أيّ قطعة أثاث، كانت حياتي عبارةً عن حقائب ثياب وكتب. وفي كلّ ترحال أفردُ مساحةً لكتبي.

  • ما الكتاب الذي تقرأه في الوقت الحالي؟

حاليًا أقرأ بوتيرةٍ أقلّ بحكم ضغط الوقت في الجامعة. لكنّني يجبُ أن أقرأ شيئًا كلّ يوم. أعيدُ الآن قراءة كتاب: "دور الصدفة والغباء في تغيير مجرى التاريخ"، لـ إريك دورتشميد.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مكتبة بدر عثمان

مكتبة رنا التونسي