الوقوف أمام مجموعة من الخرائط والمُجسّمات الخشبية التي تصوّر وتُجسّد جغرافيا وتضاريس جُملة من المُدن والقُرى الفلسطينية في عام 1947، قبل النكبة بعام واحد فقط، هو وقوف إزاء إرثٍ وطنيّ حقيقيّ دون شك، وذاكرة مُحمّلة بحكاياتٍ شتّى يُمكن لكلّ فردٍ منّا أن ينتزع منها الحكاية التي يُريد، دون أن تخرج عن سياق الذاكرة، والمكان الذي وُجِدت فيه أيضًا.

يُخبرك معرض مروان رشماوي، بصريًا، بأنّ الأرض الماثلة أمامك، وقعت ضحية سياسات استعمارية

هذا انطباع أوّل يستقبل، بعاطفةٍ كبيرة، وأشكال متعدّدة من الحنين، زوّار معرض "إرث وطني" للفنّان الفلسطينيّ مروان رشماوي و"Visualizing Palestine"، والذي تحتضنهُ "دار النمر للثقافة والفن" في العاصمة اللبنانية بيروت. وهو أيضًا الانطباع الأخير الذي سيخرجون به من المعرض كذلك الأمر، بغضّ النظر عن تعدّد التأويلات، واختلاف القراءات.      

اقرأ/ي أيضًا: الفن الحديث كان سلاحًا للمخابرات الأمريكية

افتُتِح المعرض في العاشر من كانون الثاني/يناير الجاري، وأغلق أبوابه مساء الأمس السبت. 16 يومًا كانت مدّة زمنية كافية ليُشكّل "إرث وطني"، ومنذ افتتاحه، مساحةً أو فسحة كبيرة تبدو ضرورية أو مهمّة لاستعادة إرثٍ كهذا المعروض على الجدران، أو موضوع في أرضية صالات العرض. نتحدّث عن خرائط ورقية كبيرة تتجاوز كونها مجرّد خرائط بمجموعةٍ من الخطوط والإشارات والنقاط. كما نتحدّث عن قطع خشبية ثمّة في أعلاها تضاريس تصوّر عددٍ من البلدات والأراضي الفلسطينية. يتأمل المتفرّج ما سبق باهتمامٍ شديدٍ لا بدّ منه، وتركيزٍ عالٍ بقصد اكتشاف ماهية ما هو معروض من خرائط وتكوينات وتضاريس يراها ربّما للمرّة الأولى، ولا نتعدّى إن قمنا بحذف مفردة "ربّما" مما سبق، والجزم بأنّ الناظر يراها حقًا للمرّة الأولى. فما نقف إزاءه في "إرث وطني" هو مساحات جغرافية سبق وأن تعرّضت لمُختلف عمليات التنكيل التي اقتُطعت عدّة أجزاءٍ منها، ونُهبت أجزاء أُخرى، ومُحيت بعضها من الخريطة أيضًا. كلّ ذلك، يدفع المتفرّج، دون إدراكٍ أو نيّة مُسبقة ربّما، للمقارنة، فلسطينيًا، بين شكل جغرافيا هذه البلاد بين اليوم والأمس.

يقول معرض مروان رشماوي هذا الكثير. تشعر حين تتجوّل بين خريطةً وأخرى، أو بين تجهيزٍ وآخر، أنّك تُصغي كما أنّك تنظر. وأنّ هناك من يتوجّه بالحديث إليك، بحديثٍ يختلف باختلاف ما تقف إزاءه. هي حكايات، وإن بدت غير واضحة، إلّا أنّها تشير إلى أمورٍ عدّة، وتُلقي على كاهلك أن تتخيّل التفاصيل، كما هي. فالمعرض يُخبرك، بصريًا، بأنّ الأرض الماثلة أمامك، وقعت ضحية سياسات استعمارية بريطانية، اشتغلت على جُملة من المكائد التي صبّت في صالح الإسرائيليين، ومهّدت لحدوث الاحتلال، كاقتطاع أراضٍ، وإعادة تسمية أراضٍ أخرى، وإحداث تغييرات تُفقد الأرض صورتها وهويتها الأولى والأصلية.

بالتالي، معرض كهذا يُمكن أن يكون حكاية بحدّ ذاته إن ربطنا بين المعروض فيه، وما يدلّ عليه، ومن ثمّ العودة إلى الواقع. معرض يحمل كمياتٍ هائلة من المعلومات عن فلسطين ما قبل النكبة، وإن بأشكالٍ وأساليب جديدة بصرية يتوسّلها كلّ من مروان رشماوي، وشريكه المهندس المعماريّ أحمد باركلي.

مجرّد فكرة أنّك حين تتجوّل بين القطع الخشبية التي هي مُدنٌ وقرى فلسطينية، فأنت تتجوّل في فلسطين، وإن مجازيًا

لن تجد في الأعمال المعروضة ما يستفز أو يشكّل صدمة للمتفرّج، بشكلٍ أو بآخر. لكنّ مجرّد فكرة أنّك حين تتجوّل بين القطع الخشبية التي هي مُدنٌ وقرى فلسطينية، فأنت تتجوّل في فلسطين، وإن مجازيًا، فهذه فكرة صادمة بحدّ ذاتها. تُحسب هذه النقطة لمروان رشماوي دون شك، ويُمكن لمس أبعادٍ أخرى للفكرة غير تلك التي تتبادر إلى ذهن الناظر، بتعدّدها واختلافاتِها بين متفرّجٍ وآخر.

ما يُقدّمه مروان رشماوي الذي توسّل الدمج والمزج بين الفن والبحث لإنجاز هذه الأعمال، يعتبر فرصةً يتنقّل المتفرّج من خلالها من مكانٍ إلى آخر، أي من المعرض مُباشرةً إلى القرى التي تتجسّد أمامه، في خرائط وتجهيزاتٍ خشبية. الأخيرة منها تحديدًا، تؤول في نهاية الأمر صورًا وتخيّلاتٍ متعدّدة في ذهن المتلقّي. يُحاول أن يجعل منها رقعةً جغرافية واقعية في ذهنه، وأن ينظر إليها بالشكل الذي تجسّدت فيه هناك. هكذا، من الممكن أن نقول إنّ فكرة العمل، والتجهيزات بحدّ ذاتها، لا تكتملّ إلّا في ذهن المتلقّي، حين يُحاول تخيّل صورتها في زمنها الأساسيّ، فتغدو مكتملة.

اقرأ/ي أيضًا: معرض ناصر حسين.. شخصيات تتعرّف على نفسها

هناك بُعد سياسيّ لأعمال مروان رشماوي دون شك. ونرى بأنّ هذا البعد لا يتخفّى أو يظهر بشكلٍ موارب، بحيث يُبقي تركيز المتفرّج منصبًا على الجوانب الفنيّة، بل يظهر بشكلٍ مباشر وصريح، باعتبار أنّ الأعمال نهضت على ثنائية البحث والفن معًا، وامتزجت ببضعها البعض لإيصال الفكرة المرجوّة منها، والإشارة إلى السياسات الاستعمارية البريطانية التي نكّلت بالجسد الفلسطينيّ، وتلك الاستيطانية التي تُكمل مرحلة التنكيل بأدواتٍ أكثر حدّة. المتفرّج بدوره سوف يلاحظ هذا البعد، ويدرك أنّه ليس بعدًا أيديولوجيًا على الإطلاق، فهناك ما يدلّ على صحّة كلّ قطعةٍ عُرضت، وغالبًا ما تكون أدلّة بريطانية أيضًا، من خرائط وسواها. وبانتباهه إلى هذا البعد، سوف يعيد قراءة المُتغيّرات الجذرية التي تعرّضت لها دولة فلسطين، وألمت بها طيلة سنواتٍ مضت، لا سيما حين يقف إزاء مربّعات خشبية جسّد مروان رشماوي من خلالها أكبر 22 مدينة في فلسطين، كبئر السبع وحيفا والناصرة والقدس وطبريا وغزة وبيت لحم ومدن أخرى.

 

اقرأ/ي أيضًا:

لاريسا صنصور.. شتات الفلسطينيّ لا ينتهي

معرض "أمم متعاقدة".. الفن يسائل السياسة