20-يناير-2019

ناصر حسين (ألترا صوت)

في معرضه الفردي الذي انطلق في غاليري "أجيال" في العاصمة اللبنانية بيروت تحت عنوان "زمن مستعار" منذ الـ 10 من كانون الثاني/يناير الجاري، وحتّى 2 شباط/فبراير المقبل، يكوّن الفنّان السوريّ ناصر حسين عبر مواده المرسومة أجواءً باردة تحضر فيها شخصياتٍ بملامح ضبابية وغير واضحة، تُحيل كلٌّ منها إلى فكرة أو موضوع لا يبتعد عن الواقع، وسيل الحياة اليومية، ومجاراة المتغيّرات الكبيرة التي حدثت، إن كان ذلك على صعيد المجتمع السوريّ، أو العالم ككل. التقاطات ومشاهدات تعود إلى الماضي تارةً، وتتناول الحاضر بصوره المتعدّدة تارةً أخرى.

تحيل شخصيات معرض ناصر حسين إلى الحياة اليومية العربية بعد عواصف التحولات

لم تَغِب مواضيع مثل الغربة والعزلة والخواء والخيبة عن لوحات ناصر حسين. الفنّان السوريّ المقيم في ألمانيا منذ سنواتٍ طويلة، يبدو مُدرِكًا جيدًا لأهمّية استثمار مواضيع كهذه في الوقت الراهن، ومدى عمق دورِها في تفسير وتحليل وقراءة إنسان اليوم، لا سيما في العالم العربيّ، المكان الذي إمّا تُفرض فيه العزلة على البشر، أو يُرسل البشر إليها قسرًا، أي إلى دول المنفى واللجوء، تلك التي تُعيد صياغة الإنسان بالضرورة، وقد تصنع منه ربّما إنسانًا آخر.

اقرأ/ي أيضًا: ناصر حسين في زمنه المستعار

فرضية كهذه الأخيرة، تظهر وتتجلّى بوضوحٍ في عددٍ من اللوحات التي لا يرى المتلقّي فيها شيئًا سوى بشر يقفون أمام المرآة، مُحاطين بالفراغ، في مشهدٍ يبدو فيه أنّ الإنسان لا يُحاور إلّا نفسه بالدرجة الأولى، ويُشعِر المتفرّج بأن هذا الكائن البشريّ الماثل أمامه في اللوحة، يتعرّف إلى نفسه الآن وتوًّا. بينما يدلّ الفراغ الذي يُحيط بأغلب شخصيات المعرض على العزلة والوحدة، وتأتي المرآة في هذا السياق لتكريس العزلة أيضًا، ولتدلّ على خلوّ المكان من سواها، وبالتالي غياب أي مُحاورٍ للإنسان باستثناء المرآة نفسها؛ يُمكن قراءة حركات أجساد الشخصيات، كالذراعين الممدودتين جانبًا، أو المنسدلتين على الساقين دون مبالاة، والرأس المائل، والاستسلام أو الحيرة الظاهرة على تفاصيل الجسد.. على أنّها جزء من مُحاولات من يقف أمام المرأة في تفحّص نفسه، أو اكتشاف جسده تمامًا كما لو أنّه يراه ويتعرّف إليه للمرّة الأولى.

من الافتتاح في غاليري أجيال

وإن أعدنا المشهد إلى أصله، أو الفكرة المرجوّة منه، أي العزلة، ومن ثمّ إعادة العزلة نفسها إلى الغربة والمنفى، يكون ما يراه المتلقّي في لوحات ناصر حسين نتيجة طبيعية لها، أي العزلة التي تفرض على الإنسان أشياء كثيرة، أقلّها ربما أنها تُعيد صياغته، وتحويله إنسانًا آخر يجهل هويته أو صورته الأولى.

ما أن ننتهي من الوحدة، بكلّ التفاصيل التي جسّدت حضورها في أعمال ناصر حسين، حتّى نُحال مُباشرةً إلى فكرة الغربة المسؤولة، كما سبق وذكرنا أعلاه، عن حضور أو تكوين الفكرة الأولى. الفنّان السوريّ أراد أن يتناول الغربة أو المنفى بصورةٍ مُغايرة، بحيث يجعل من اللوحة التي تجسّد فكرة المنفى، مُدعاةً للتأمّل أيضًا، ومساحاتٍ كبيرة لاحتواء الدهشة. هكذا يُمكن للمتفرّج أن يقرأ لوحاتٍ لا تضمّ سوى جذع شجرة، يظهر أحد الأشخاص خلفها وهو يمدّ غصن شجرة يقف عليه طائر يظنّ أن الغصن حقيقيّ، وليس مجرّد غصن ميّت لا فائدة منه. أو تمدّ يدٌ بشرية الغصن ليقف عليه الطائر. وبما أنّ الغصن هنا يُمثّل أو يشير إلى وطن الطائر، فـإنّ المشهد كاملًا يدلّ على فكرة الوطن المستعار، أو المنفى الذي وقع في أسره كلّ من اللاجئين والمنفيين، السوريين منهم بشكل خاص، والبشر في كلّ مكان بشكلٍ عام، كما يوضح ناصر حسين في حديثه لنا.

جانب من المعرض 

في ضوء كلّ ما سبق، عزلة ووحدة وفراغ ومنفى ووطن مستعار، تلفت الألوان المستخدمة في تكوين اللوحات التي تناولت المواضيع السابقة انتباه المتفرّج. ألوان تُرابية تُشكل الجزء الأهم من خلفية المادّة المرسومة عند ناصر حسين. الفنّان السوريّ يُفسّر اختياره لهذه الألوان بالقول إنّها تخدم موضوعه. ويضيف: "يستهويني استخدام هذا النوع من الألوان التي تُسمّى باردةً أو حوارية، وبالتالي، تنسجم مع الفكرة التي أريد تجسيدها في العمل. فأنا أؤمن بأنّ على الفنان حين يصوّر على سبيل المثال كائنًا بشريًا في حالة نفسيّة معيّنة، كالعزلة والوحدة والمنفى وأمور كهذه، يجب أن تكون الألوان المُستخدمة منسجمة ومتناغمة مع الموضوع المطروح. فمن غير المعقول أن تُطرح الوحدة على سبيل المثال بألوان فاقعة، أحمر أو أصفر أو غيره".

يؤكد الفنان السوري ناصر حسين على أنّ غياب العناوين يُحرّر اللوحات من أي فكرة قد يُشير إليها أي عنوان

إلى جوار الألوان، ثمّة موضوع آخر يلفت انتباه المتلقّي دون شك، وهو غياب العناوين عن اللوحات المعروضة في المعرض. أمر كهذا من الممكن أن يمرّ مرور الكرام لو كانت اللوحات تتناول مواضيع أخرى غير التي تناولتها. ولكن مع مواضيع كهذه، تتعدّد القراءات أو التفسير والتحليل عند المتفرّج. ناصر حسين بدوره يشير إلى أنّ غياب العناوين يُحرّر اللوحات من أي فكرة قد يُشير إليها العنوان. فهو يؤمن بحق المشاهد في وضع موضوعه وقراءته الخاصّة للعمل، بمعزلٍ عن العنوان الذي من الممكن أن يأسره.

من أعمال المعرض

بالتالي، مع غياب العنوان، تكون أمام المتفرّج مساحاتٍ كبيرة ورحبة لوضع التفسير أو القراءة التي يريد، وهي غالبًا ما تكون صحيحة، وإن كانت تختلف عن اعتقاد الفنّان نفسه، كما يؤكّد الفنّان السوريّ.

اقرأ/ي أيضًا: محمد بن مفتاح.. إحياء ملحمة البعث الآدميّة

نتنقّل برفقة ناصر حسين من لوحةٍ إلى أخرى في المعرض. نتأمّل عملًا وراء آخر، ومن بين تلك اللوحات التي تستوقفنا، كما تستوقف كلّ المتفرّجين، هي لوحة تظهر فيها امرأة تُمسك رجلًا من يديه وتطيّره في الهواء. مشهد كهذا يبدو مألوفًا في كلّ علاقات الحب الذي يحضر في العمل بكلّ ثقله وتفاصيله، لكن بصورةٍ مُغايرة وساخرة لم يسبق وأن تطرّق إليها أحد. فما تفعلهُ المرأة، أي تطيير الرجل الذي تحبّ في الهواء، كان دائمًا من مهمّة الرجل لا المرأة. بذلك، يكون الفنّان قد وطأ أرضًا جديدة لم يسبقه إليها أحد، ولا مرجعية لها في الأصل. بالإضافة إلى أنّه يحفر في أماكن جديدة بحثًا عن التجديد وتجنّب التكرار، إن كان ذلك على صعيد الفكرة، أو التكوين.

 

اقرأ/ي أيضًا:

 أبو غابي.. صوتٌ بنفاسة المخطوطات