بعضُ المعارض الّتي قد نزورُها للفرجة أو الكتابة أو للمُتعة الشّخصيّة الصّرفة، قد يكونُ لها ظروف وتفاسير واضحة، أو مسوّغات تشرحُ وتُبرّرُ أسباب قيام هكذا نشاط. معرض زياد أبي اللمع الّذي يحتضنهُ غاليري صالح بركات، في محلّة كليمنصو –بيروت، يمشي عكس ذلك تمامًا.

السّؤالُ الأوّل والبديهيّ الّذي يحتلُّ الخاطر مفادهُ: ما الّذي يُمكنُ أنْ يفعلهُ المرءُ أمام تلك المنحوتات؟ ومنعًا للالتباس، لا أدري بالضّبط إن كانت منحوتات أو تصاميم أو تنفيذًا لرؤى وأفكار ضجّت في رأس باعثها فصبّها على هذه الشّاكلة.

أعمال زياد أبي اللمع، كما أفكارُه غير مكتملة. تتوقُ وتبحثُ عنْ كمالها في كلّ وقت، وكلّ لحظة

تبدأ الصّالة الأولى الصّغرى بمنحوتاتٍ مصنوعة من معدن ودواليب مطّاطيّة من معرضه السابق في 2016، والّذي أقيم في الغاليري نفسها. وتستمرّ بعدد آخر من المنحوتات الجديدة والتي تشكّلُ قوام المعرض الحاليّ.

اقرأ/ي أيضًا: معرض سعيد عفيفي.. الطبيعة حين تصير خرائط

لعلّ أوّل ما يلفتُ في الأعمال فكرةٌ أساسيّة، وأقولُ فكرة، مفادُها الخُضوع خضوعٌ مُشتّتٌ ومُوزّع، خُضوعُ الشّرق أمام الغرب، الآخر أمام الأنا... إلخ.

هل يمكنُ تأويل الخضوع في بعض المنحوتات من خلال بعض المعادن المستخدمة؟ الصّاروخ مثلًا.. رمزًا للحرب مع أنه أداةُ إخضاع.

الذّكاء صفةٌ مُستحقّة للأعمال الّتي يقدّمُها أبي اللمع في معرضه، فهي بمثابة اختبار "آي كيو" للمُشاهد، حيثُ تحفّزُ منطقيّة الدّماغ، ومنذُ اللّقاء الأوّل، على التفكُّر والإذعان لإمكانيّة وقدرة هذه الأعمال على تشويش بل "خربطة" معايير الجمال.

لنترُك للمخيال لعبتهُ في رسم بعض مآلات المنحوتات. مثلًا لو أزلنا الدّولاب المطاطيّ من إحداهنّ لحصلْنا على تجويفٍ أنثويّ. ولوْ أزلنا الدّولاب من منحوتةٍ شقيقة لحصلنا على تطاوُل أشبه بعضوٍ ذكريّ. وهذا محضُ خيالٍ طبعًا.

بعد ذلك لنتأمّل مليًّا، كلُّ الدّواليب منفوخةٌ، باستثناء واحدٍ، ذلك المُتربّع وسط الصّالة. هذا المطّاطُ الفارغُ المُصطّفُ في وسط الحلقة، يُحيلُنا إلى فكرة أنّ كلّ شيء إلى زوال، كلُّ شيء سينتهي. وهذا أيضًا مُجرّد تأويل.

أضحتْ هذه الكائناتُ، باعثةً على التّفكير في أسباب نُشوئها وفي موقعها على خارطة الفنّ المفهوميّ. وضعتنا أمام امتحانٍ جدّي وحقيقيّ لإمكانيّة فهم وقراءة وتدبُّر الأعمالْ، وقولبتها جزءًا من ذاكرتنا الفنيّة.

الذّكاء صفةٌ مُستحقّة للأعمال الّتي يقدّمُها أبي اللمع في معرضه، فهي بمثابة اختبار "آي كيو" للمُشاهد

منحوتاتُ، كما أفكارُ، زياد أبي اللمع غير مكتملة. تتوقُ وتبحثُ عنْ كمالها في كلّ وقت، وكلّ لحظة.

اقرأ/ي أيضًا: حوار| غطفان غنوم.. كاميرا تبحث عن سحر العالم

السّؤالُ الأخيرُ الّذي يُمكنُ طرحُه هو أشبهُ بالاستفزاز، استفزازٌ للزّمن الّذي لوْ قيّض لي لطويتُهُ خمسين عامًا فقط، لأبصر زياد أبي اللمع أين سيكون! لحظة تكونُ أعمالهُ منارة الزّمن القادم.

النّصوصُ المرفقةُ والمعلّقةُ على الحائط، نصوصٌ شعريّة بامتياز، هي أقربُ ما تكونُ قصائد. هنا نعرضُ النّصوص المُرفقة، بعد نقلها إلى العربيّة.


الأمرُ شبيهٌ بانتصارٍ، بماء مُدمج، متجانس، مهيب. معمارٌ مُتّسمٌ بالشّموليّة. هو الواحدُ والحاكمُ والقائدُ. انظُر كيف يقترحُ نفسه بكلّ جلالٍ. تندمجُ قاعدتها مع تمكُّنه من الكون الّذي له. يبدو هنا مزروعًا على أرضه إلى الأبد. في مواجهة الإعاقة والتّشرذم، يبدو كاملًا، لكن صحّته وهشاشته لا تشغلانه. ألست هنا، كاملًا، منتصرًا، منتصبًا إلى الأبد؟ هوٌ لوحةٌ في حدّ ذاته. تعكسُ الكاميرا شموليّته.

(2022)

هذا الشيء غير السويّ شكلًا، المنجذبُ بشدّة نحو امرأةٍ جدُّ شهوانيّة، الّذي يجبُ رفضهُ قطعًا من الأصل. ويعتقدُ البعضُ من هؤلاء الغارقين في الجمود السّائد في هذا العصر، بخصوص النّساء اللّواتي يعشقن قدرتهنّ على تحريك ما هو جامدٌ، يرون في الأمر انبعاثًا للقضيب. لأنّه أنبوبُ هواء، ذو شكلٍ غير سويّ، مستبعدٌ منْ كلّ ما هو جمالّي ومن كلّ ما هو مُنسجم. يجبُ جعلُه بلا شكلٍ مُنتظمٍ، تمطيطُهُ، تضخيمُهُ بطريقةٍ غريبةٍ عن التّناظر المتحكّم. وهكذا فإنّ غرابتهُ في عالمٍ جماليّ، وغيابُ أيّ تفرُّدٍ لديه، وانتفاخاتُه الّتي تفصلُه عنْ أيّ أملٍ في تحقُّقه، تجعلُه عبدًا لوظيفته غير المرئيّة. ليس لهُ الحقُّ في أنْ يكون جميلًا.

(2016)

 

كلُّ شيء يبدأ بالله.

وكلُّ شيء من المُحتمل جدًّا بأنْ ينتهي بالله. وموضوعي أنا هو الرّجل المكتفي بذاته الّذي يُشبهه. لقد طرد الرّجولة الّتي تعدُّ مثالًا للأنثويّ. انتهى الأمرُ بالإنسان إلى النّظر إلى نفسه في المرآة، ممّا جعله يبدو مثالًا للإله الوحيد في عزلته. وسيكونُ من الضروريّ القبولُ بأنّ المرأة ليست حالةً قدريّةً بلْ هي مُتعةٌ تتّخذُ لها شكلًا نحنُ محرومون منه. فالآخرُ، الّذي يفْضُلُ، المهدورُ، الأنثويّ في رأيي، يسلُكُ السّبيل الّذي يكشفُ ويُظهرُ الاحتفاء الذّاتيّ، كحاجةٍ ذكوريّة لا يُمكنُ التّوصُّل إليها.

بدلًا من أنْ يحلّ المشكل بينهُ وبين ذاته يُفضّلُ التّمجيد الذّاتيّ. إنّه يقتربُ منْ الشّمس الّتي ستحرقُهُ في آخر المطاف ضحيّةً لكبريائه الجامح

اقرأ/ي أيضًا: داناي مونس.. حلم فاتن عن الضياع

أنبوبُ الهواء الّذي يُجسّدهُ هذا التّمثالُ (الشكل المرفق) تُقوّضُ الصّورة المثاليّة لما يُعْتبرُ "العُصفور في الهواء"، أثرٌ خالصٌ، جوهرٌ أفلاطونيّ خالصٌ. يتعلّقُ الأمرُ بعنصر (أنبوب الهواء) لا يتوافقُ وهيمنة آلات الحرب الّتي تشكّل جزءًا في الأعمال الفنيّة لبرانكوزي. بهذا الخصوص، من الضروريّ أنْ نفهم تمامًا القرابة الشّكليّة الموجودة بين أعمال برانكوزي والدّيزاين الصّناعيّ، كدفاعٍ عن روحانيّة شبه صوفيّةٍ، تقتربُ شكليًّا وربّما أيديولوجيًّا منْ ميراج 3. ما كان من المُفترض أنْ يكون آلات حرب جدُّ متطوّرة تقنيًّا. كان برانكوزي يقولُ بإنّه يريدُ "الإمساك بجوهر التّحليق". وبالتّالي، فالأمرُ انتصارٌ لمثال غير مجسّدٍ على فسادٍ زائلٍ حتمًا. وهكذا فـ"العصفور في الهواء" من المفروض أنْ يكون فكرةً "خالصة"، مجرّدة من المادّة. القلقُ هو الجسدُ، وهو عدمُ ثبات أشياء هذا العالم. إنّه انتصارُ المثال على الجسد. وهنا يؤكّدُ عدم إمكانيّة الوُصول إلى واقع محدّدٍ جنسيًّا في الوقت الّذي يتنافسُ فيه معهُ. إنّهُ أيضًا اختزالُ الفنّ في الهويّة، وهو ما يخلقُ أزمةً، عندما يحضرُ الآخرُ المجسّدُ في أنبوب الهواء على اعتبار أنّه متفوقٌ سلفًا حسب النّظرة الخلفيّة الشّائعة الّتي يحتفى بها، فيرتدُّ عن استراتيجيّته في الإغواء. يريدُ الإغواءُ هنا اختزال العالم في مسارٍ يُمكنُ تمامًا التّكهُّن بمآله سلفًا. أريدُ أنْ أعيد الغُموض إلى الله، والتّعامُل مع الأمور الإنسانيّة الّتي يحجبُها خارج دائرة الضّوء. تخلّى برانكوزي عن العالم برفضه متعة الجسد وتمجيد هذا الرّفض. إلّا أنّ الجسد لمْ يختف قطُّ منْ أعمال برانكوزي، الشّيء الّذي يجعلُها قويّة: لقدْ سُجن الجسدُ في قفصٍ استُبعد منهُ ما هُو روحانيّ. وفعلًا، فبدلًا منْ أنْ يعمل الرّوحانيُّ على انفتاح ما هو ماديّ على ما لا يُمكنُ تسميتهُ، يتمُّ اختزالُ هذا الرّوحانيُّ في الإمساك بما هو قبضٌ، والسّيطرة، والقفص. صارتْ الرّوح برونزًا كي تصبح قابلةً للإمساكْ.

(2016)

خرج في البداية منْ ليلةٍ مُظلمةٍ. لمْ يكُن قلقًا بشأن كونه مُختلفًا. كان سعيدًا بالبركة الّتي حلّت به، ورضي بالانتشاء، ضائعًا وسط عدم الاكتراث السّائد. لكنّه وجد نفسهُ وهو يقتني مرآة. هو معجبٌ بنفسه، ينظرُ إلى نفسه. ها قد تطبّع تحت تأثير الإعلام القويّ: يلتقي بصورته أكثر فأكثر. هلْ هو نتاجُ عصره؟ الأحرى القولُ أنّهُ انتمى إلى فصيلة أولئك المُنشقّين المتمرّدين الّذين كانوا غير مرئيّين منْ قبل. ما كان رقصًا متوحّشًا، صار طقسًا، فعادةً، ثمّ علاقةً واجبة. هذا في حين أنّه كان يجبُ عليه أنْ يكون إلى جانب ما أرستهُ أزمةُ الشّرعيّة الّتي جاءتْ بها اللُّغة الجديدةُ المُخلّصة، حسب تعبير: "كُلّن يعني كُلّن". فوقع في فخّ سُلطتها الجديدة المُكتسبة. هذا مع العلم أنّ البركة وفّرت لهُ أجنحةً. حلّقتْ به إلى ما وراء غيوم الواقع، حيثُ يوجدُ سجنُ أسياده السّابقين. هلْ أدرك طبيعة الهديّة الممْنُوحة لهُ؟ هو أمرٌ غيرُ مفهومٍ لسيّد المكان الّذي جُرّد فجأةً منْ حريّة القول ومنْ تعاليه السّابق. لقد ابتعد عن الواقع، لمْ يعُدْ رفيقًا لهُ. سواء كان حُرًّا أو مُسْتلبًا، لا يهُمُّهُ أنْ يُحلّق المُتوحّشون بشكلٍ جماعيّ! فمن المفروض أنْ يحميه تيقُّظهُ ويجعلهُ في نفس حالة حلفائه الجُدُد دون أنْ يهاب الضّعف النّسبيّ الّذي من المفترض أنْ يفصلهُ عنْ أعدائه. هو مُنتشٍ بقوّتهم، وهو الآن يتمتّعُ بفرحه بدلًا من الاهتمام بما اكتسبهُ. إنّهُ يُظهرُ نفسهُ عبر سلوكيّاتٍ عديمة الفائدة وخرْقاء: يتوجّبُ أنْ يكون ثوريًّا حقيقيًّا بعيد المنال، وفي نفس الوقت شخصًا يُمكنُ للجمهور الجاهل كليّة أنْ يصل إليه. لذا فهو يتحرّقُ للظُّهور كسُلطةٍ كونيّةٍ. يتعلّقُ الأمرُ بإحداث قطيعةٍ، لكنّهُ مع ذلك، تذهبُ جهودُهُ سُدًى ما دام يستغرقُ الوقتُ في منافحة المُعطيات الّتي أفرزها المشكلُ، جاعلًا منها السّبب في كون كيانه هشٌ. بدلًا من أنْ يحلّ المشكل بينهُ وبين ذاته يُفضّلُ التّمجيد الذّاتيّ. إنّه يقتربُ منْ الشّمس الّتي ستحرقُهُ في آخر المطاف ضحيّةً لكبريائه الجامح. الإحساسُ بالحريّة المُطلقة أنساه كلّ ارتباطٍ وكلّ علاقةٍ وكلّ مسؤوليّة. يفتنُهُ التّفوُّقُ الذُّكوريُّ ويُثيرُهُ بقوّة. عليه، مثل كلّ المرّات السّابقة، أنْ يكون الأجمل والأقوى. لكنّهُ وهو يرى نفسهُ في هذه اللّحظة مميزًا، فهو لا يفعلُ سوى أنْ يستنسخ قوّة منْ يكرهُهُم. أولئك الّذين صار لباسُهُم الوحيدُ هو قوّتُهم الفارغة منْ كُلّ معنى.

(2022)

 

اقرأ/ي أيضًا:

استعادة عارف الريّس.. فنان الوجوه المتعددة

عن أحمد قعبور الذي يغني روحنا