19-سبتمبر-2016

تقول الأرقام إن هناك أربعة ملايين مسن في الجزائر، بعضهم يحظى بتقاعد، وبعضهم باق على قيد الحاجة إلى المنحة الحكومية وصندوق تأمين غير الأجراء (تصوير محمد أحمد خريفي)

لفت انتباه الكبير والصغير إليه، صبيجة عيد الأضحى، برشاقته في ذبح ونفخ وسلخ الكبش، هو المقبل على عقده التسعين، محاطًا بأولاده وجيش من الأحفاد الذين كان يشاكسهم ويشاكسونه كأنهم أصحابه. كانت هذه حالة العم إبراهيم من مدينة بودواو، 38 كيلومترًا شرقًا.

تقول الأرقام إن هناك أربعة ملايين مسن في الجزائر، بعضهم يحظى بتقاعد، وبعضهم باق على قيد الحاجة إلى المنحة الحكومية وصندوق تأمين غير الأجراء

في المقابل، يعرف الحاج مسعود، 79 عامًا، بكونه يخرج كرسيًا بعد كل عصر، ويحتل مدخل البيت إلى أن يحين المغرب، من غير أن يكلم أحدًا أو يكلمه أحد، مكتفيا بالتحديق في الفراغ، والإشارة إلى كائنات لا يراها سواه، مما برمجه في أعين الجيران والعابرين مجنونًا، غير أن الشيخ ليس كذلك تمامًا.

اقرأ/ي أيضًا: أعضاء من الأضحية حكر على النساء في الجزائر

هذا ما اكتشفناه، من خلال جلسة جمعتنا به، بعد أكثر من محاولة، وكانت عبارة وصفنا بها الجيل الجديد بناكر الجميل، مجاملة له، مدخلنا إلى عالمه المنخور بالأسف والإحساس بالوحدة. رد على العبارة: "هذا الماثل أمامك دليل على نكران الجميل". قلت: "هل هذا ما يجعلك لا تحدث الآخرين يا عمي مسعود؟"، قال: "أنجبت أربعة أولاد، بات لهم سبعة عشر ولدًا، لكنهم لا يزورونني إلا نادرًا، ولا يدعونني إلى بيوتهم أبدًا، ولولا أن أمهم أصغر مني، بما يسمح لها بالحركة، لضاع كلانا".

العم مسعود قال إن المسن الجزائري لم يعد أمامه إلا الجامع والمقبرة، وما دونهما فهو غير مرغوب فيه". يضيف: "سابقًا، كانوا يكتفون بعدم استشارته داخل البيت، وحاليا باتوا لا يطيقون وجوده فيه، وإني راغب في معرفة الأسباب التي أدت إلى هذا الوضع. لم يكن الجزائريون هكذا بالأمس القريب".

تحولات الزمن

ترتبط هذه الهوة التي أصابت العلاقة بين الجيل الجديد والجيل القديم، بالتحولات الاجتماعية والاقتصادية غير المدروسة والمهيأ لها في إطار مشروع مجتمع واضح المنطلقات والآفاق. "كانت الأسرة الجزائرية بعد الاستقلال الوطني خاضعة لسلطة شخص واحد، عادة ما يكون هو من يصرف عليها، ولم يكن للمرأة دور مالي، أما اليوم، فقد بات معظم أفراد الأسرة موظفين، بما فيهم النساء، مما أفشى إحساسًا بالتحرر من التبعية المالية لكبار العائلة.

تقول الأرقام إن هناك أربعة ملايين مسن في الجزائر، بعضهم يحظى بتقاعد، وبعضهم باق على قيد الحاجة إلى المنحة الحكومية وصندوق تأمين غير الأجراء. غير أن الأهم من التكفل المادي، بحسب العم رمضان، بائع السمك في سوق مدينة الرغاية، هو التكفل المعنوي، "ذلك أن المسن حساس مثل طفل، ويجرحه أن ينظر إليه بعين الشفقة. هل لاحظت ندرة الشيوخ في الأعراس اليوم؟ لقد انسحبوا لأنهم باتوا لا يعاملون بصفتهم رمزًا للبركة، بل بصفتهم رمزًا للإزعاج".

اقرأ/ي أيضًا: حافلات الجزائر..الموت يسير على عجلات

مملكة خاصة

في مدينة معسكر، على بعد 400 كيلومتر غربًا، يتميز " مقهى ولد الحسن"، فتح بابه وفناجينه عام 1902 في حي "بابا علي" الشعبي، بأنه فضاء مخصص للشيوخ، ولا يقصده الشباب ولو من باب الفضول.

احتفاظ المقهى بمبناه القديم وطاولاته وكراسيه العتيقة، وطريقة إعداده للشاي والقهوة على الجمر ولباس رواده من المسنين، يعطيك انطباعًا بأنك في مشهد تمثيلي لفيلم تاريخي، وما عليك إلا الانتباه إلى مظهرك الموغل في النشاز.

عشرات المسنين يلعبون الورق بحماس، ويتبادلون النكت والذكريات، ولا تخفى عليهم خافية، كما يقول العم سليمان. "هنا بشر بأجساد مسنة وأرواح شابة، هربوا من برودة أسرهم وأسرتهم وخلقوا لهم مملكة خاصة، يتبادلون فيها حرارة المشروب والمحكي. هل تراهم؟ كل شيخ هنا حكاية متكاملة الأركان".

اختلفت حكايات رواد المقهى، لكنها اشتركت في الإحساس بالغربة داخل الزمن الجديد.يواصل العم سليمان: "صحيح أننا ننتمي، من حيث الرغبات والتفكير، إلى الزمن القديم، لكننا نملك الحق في الحياة، ما دمنا لم نمت بعد، فبأي حق نعامل كأننا لسنا موجودين؟ إنهم لا ينتبهون حتى إلى خصوصيتنا الغذائية، بالأمس قلت لكنتي: "هل تعتقدين أنني أستطيع أن أمضغ هذا الطعام؟ لقد نسيت أنني لست في عمر ابنها". يختم: "متى يدرك أولادنا أنه "اللي غاب كبيرو غاب تدبيرو؟".

اقرأ/ي أيضًا: 

عيد الأضحى في الجزائر.. عرس السواطير

حي هلال في تونس.. لا يزال للأمل مكان