29-سبتمبر-2015

مواجهة التطبيع ممكنة (Getty)

عند الكلام على جزئية حساسة كالتطبيع في الإعلام، قد يبدو مستهجنًا التمثيل عليه بإيراد واقعة هزلية حصلت فعلًا على شكل "مقلب"، وتصلح لأن تكون مدخلًا استهلاليًا، من باب أن الظّواهر الصغرى تتضمن بالضرورة دلالات كبرى. ففي واحد من برامج المقالب التلفزيونية، تمّت استضافة أحد الإعلاميين المعروفين بطريقتهم التهريجية في الطّرح السياسي على وجه الخصوص. فكرة البرنامج تقوم باختصار على إجراء مقابلة مع فنانين ومشاهير لبرهة من الوقت تتناول أبعاد التطبيع في إطار كوميدي، ثم تقوم المذيعة بمفاجأة الضّيف وإبلاغه بأن القناة التي تستضيفه "إسرائيلية"؛ لتكون ردّة فعله هي لحظة الذروة التي ينتظرها جمهور المشاهدين.

وفي حين صدرت عن ضحايا البرنامج النتيجةُ المتوقعة بالفطرة لأيّ مواطن عربي؛ بمعنى فورة الغضب وطلب إيقاف التصوير مباشرة والتّهديد بمقاضاة القناة والقائمين عليها وما إلى ذلك، إلا أنّ ردّة فعل الإعلامي سالف الذكر جاءت عكسية وغير متوقعة؛ فقد بدا أن أساريره انفرجت، وسرعان ما راح يسترسل في اعترافه بحق "اليهود" في الأراضي، كمن يستعرض بطولات في التّطبيع. كيف لا وهو من مؤيدي الحرب الإسرائيلية على غزة، والمطالبين باجتثاث حركة حماس من جذورها؟!

قد تستبد بنا الدهشة – والخيبة ربما - عند مقارنة ردّة فعله مثلاً مع ردّة فعل ممثل هزليّ آخر، تسخر منه النّخبة، تَعرّضَ لنفس الموقف في حلقة أخرى من نفس البرنامج، فاستشاط غضبًا مما حدث وكاد أن يشهر مسدسه، مع احتمالية وجود فبركة هنا للمشهد، لكن العبرة دائماً في النتائج، بصرف النظر عن سلوك الأشخاص.

في عصر الفضاء الإعلامي المفتوح لم يعد التطبيع بكافة أشكاله سرًّا

على نقيض الممثل الهزلي، فإن ممارسة ذلك الإعلامي وردّة فعله تحمل في صلبها إجابة على دوافع التّحول، وتصبّ في خانة ما يسعى إعلام التطبيع إلى تحقيقه؛ بمعنى السّعي نحو خلق حالة مُستقرّة من "الاعتياد" على شيء ما لم يكن بطبيعته عاديًا في إطار ومجرى العلاقة مع العدوّ؛ قضية أو حالة أو خبر مثلً، تدفع المتلقي لاستمراء قبولها والرضا بها مرة تلو أخرى دون تدقيق. كذلك، يمكن التأشير هنا بشيء من الحذر وعدم التهويل على أن انتقال الإعلاميين العرب من مرحلة التطبيع القائم على المشاركة في لقاءات ومؤتمرات وندوات مع "إسرائيليين" إلى مرحلة التماهي مع أجنداتهم، يتفوّق كمًّا ونوعًا على تماهيات الطرف المقابل مع المواقف العربية الثابتة.

هذا بدوره يقودنا إلى المرور سريعًا على تمظهرات التطبيع الإعلامي في أكثر صوره انتشارًا، والتي تتركز في اللقاءات المشتركة بين إعلاميين عرب وإسرائيليين، على المستوى الفردي والمؤسساتي، سواء في "الداخل" العربي أو خارجه، ومنح التصريحات لمنابر إعلامية اسرائيلية، والعكس صحيح. ناهيك عن قبول الدعم والتمويل الـمُقدّم لهيئات ومؤسسات، وظيفتها الترويج لشعارات تطبيعية تحت مسمى التعايش السلمي وأمن المنطقة وسلام الشعوب والتواصل الحضاري العابر للأجناس والأديان والقوميات...الخ.

في عصر الفضاء الإعلامي المفتوح، لم يعد التطبيع بكافة أشكاله سرًّا، وباتت أنشطة الـمُطبّعين مفضوحة ومتاحة للجميع، بل إن هناك قوائم تصدرها لجان مقاومة التطبيع ونقابات مهنية ومؤسسات مستقلة بين فترة وأخرى تحتوي على أسماء الـمُطبّعين ومنظماتهم وفعالياتهم ذات الطابع أو النشاط التّطبيعي. يأتي هذا على الرغم من استمرار تباين الإجتهادات القائمة حول تعريف التطبيع مفاهيميًا، وانفتاحه على تأويلات لم يُحسم الجدل حولها بشكل قاطع ونهائي. فالتطبيع الإعلامي يشمله بالضرورة تعريف التطبيع في إطاره الأعم، والذي يرى في المؤيدين لاتفاقيات السلام وفراخها والمنخرطين فيها مُطبّعين، حتى وإن أُغفلت الإشارة إليه صراحةً، لكن يُستدلُّ عليه من السياق العام، الذي يحصر النشاط التطبيعي في الفكر أو القول أو العمل، وثلاثتها بالمجمل تقع ضمن اختصاص ودائرة الإعلام أسوة بغيره.

دعاة التطبيع الإعلامي يفترضون "جهلًا" لدى عموم الوطن العربي في معنى التطبيع ومضمونه، وبالتالي تحملهم لمسؤولية "كشف الغمة"، بما تتضمنه مسؤولية كهذه من ضرورات تخليص كلمة "التطبيع" من مضمونها "التخويني" و"التجريمي" والإنتقال بها إلى حيّز التداول الطبيعي، بافتراض أن العالم تغير، خصوصاً بعد سقوط نظام القطبية الثنائية، الأمر الذي يستوجب إجراء مراجعات فاحصة ودقيقة في سبل وأدوات التعامل المعرفي مع أي جهة كانت، حتى وإن تطلب ذلك ظهورًا إعلاميًا إسرائيليًا في الفضاء العربي أو العكس.

ثمة مؤشر خطير لا يحتمل وجهات النظر حول الانتقال من إعلام التطبيع إلى تطبيع الإعلام

الحجة التي يسوقها هؤلاء وأمثالهم تكاد تكون واحدة على الدوام رغم تعدد صياغاتها، وتندرج عادة ضمن سياق التوجه نحو الحوار مع الإسرائيليين بلغتهم التي يفهمونها، بل ومن خلال وسائلهم الإعلامية مباشرة إذا تطلب الأمر؛ بذريعة أن المواجهة الإعلامية دون عوائق مع جمهور "الآخر" أسهل الطرق للوصول إليه، لا فقط بغية تمرير رسائل من خلال مخاطبته بشكل مباشر بعيدًا عن أدمغة القطيع والسياسة الموحدة التي تمارسها في حقه وتفرضها عليه السلطة السياسية والدينية، وإنما كذلك للتعرف إلى ذهنية ذلك الجمهور، وكيفية تفكيره، والتأثير فيه عن قرب وفق المبدأ المحرّف "اعرف - قطيع - عدوك".

ثمة مؤشر خطير لا يحتمل وجهات النظر حول الانتقال من إعلام التطبيع إلى تطبيع الإعلام، يستوجبُ الإهتمام بفضح اقترافات آلة العدوان وتفكيك حقيقة خطابه أساسًا من خلال الإعلام نفسه؛ فما يجهله دعاة التطبيع الإعلامي أن استمرار المسارات التطبيعية إلى أمد طويل في حيزها الإعلامي شبه مستحيل من الناحية العملية وبمقتضى المتغيرات التي تعصف بالإجواء السياسية المحمومة بين حين وآخر، وبالتالي لا يبقى لهم في نهاية الأمر سوى علاقة سائبة بأولياء إعلامهم التطبيعي، سرعان ما تنتهي وتتحلل.

اقرأ/ي أيضا: مصر..إعلام برتبة شريك في الفساد