11-يناير-2019

أحيانًا كثيرة يُساء فهم مقولات كارس ماركس عن الدين (Daily Maverick)

نسمع دومًا مقولات يرددها البعض أثناء النقاشات والجدالات المحتدمة بين تيارات مختلفة، وخاصة في النقاشات التي يكون فيها الدين هو الموضوع. ومن هذه المقولات ما قاله كارل ماركس عن أن "الدين أفيون الشعوب"، ومقولته الأخرى "نقد الدين مقدمة لكل نقد".

يقول ماركس: "إن الدين هو الزفرة يصعدها المخلوق الذي هدّه الشقاء، هو الروح في عالم بلا روح، هو الفكر في عصر لا فكر له، إنه أفيون الشعب"

في الواقع توضع هاتين المقولتين في غير موضعهما أحيانًا، ويتم استخدامهما لأغراض وأهداف لم يكن يقصدها ماركس، فتُحشر هاتين المقولتين كأداتين للدفاع عن كل ما هو غير ديني، أو للهجوم على كل ما هو ديني. فماذا قصد ماركس بهما؟ الدين أم المؤسسة الدينية؟

اقرأ/ي أيضًا: ماركس والطبيعة البشرية

في تحديد النص

في كتابه: "مساهمة في نقد فلسفة الحق عند هيغل"، يكتب ماركس أن "الشقاء الديني هو من جهة يمثل التعبير عن الشقاء الواقعي، وهو من جهة ثانية احتجاجٌ على هذا الشقاء. إن الدين هو الزفرة يصعدها المخلوق الذي هدّه الشقاء، هو الروح في عالم بلا روح، هو الفكر في عصر لا فكر له، إنه أفيون الشعب".

والكلمة الأخيرة في النص فقد تم تغييرها من صيغة المفرد إلى الجمع، لتكون عامة وشاملة لكل شعوب العالم، فصارت "الدين أفيون الشعوب" بدلًا من النص الأصلي "إنه أفيون الشعب"، لأنها لو تم ذكرها كما وردت في النص الأصلي، لما كان بالإمكان استخدامها بفائدة.

ويجب البحث عن متى عاش ماركس ومتى قال هذا، وفي أي مكان، وما هي الظروف التاريخية المحيطه به وبهذا القول. كما يجب البحث عن طبيعة الأفيون وأهميته في العصر الذي أطلق به ماركس مقولته، خاصة وأن ماركس ولد عام 1818 وتوفي عام 1883، عصر حروب الأفيون.

تحالف السياسة والدين؟

الدكتور عفيف فراج في كتابه "دراسات يسارية في الفكر اليميني"، الصادر في تشرين الثاني/نوفمبر 1970، وفي فصل تحت عنوان "نحو فهم ماركسي للمسألة الدينية"، يقول: "وإذا كان الدين يفرخ في المجتمعات المعاصرة فوق البؤس والجهل، فإن الصدام يبدأ ضد هاتين العاهتين المتلازمتين".

وينطلق فراج من النموذج اللبناني ليشرح المقولة ويفندها: "أختلف مع النهج الذي يتبع عادة في تناول المسألة الدينية، وهو نهج أعتبره فوقيًا، وبالتالي غير ماركسي"، مضيفًا: "مرة تلبس السلطة السياسية العمامة وثوب الكهنوت وتشهر سيف السلطة الدينية. ومرة أخرى تنزل السلطة الدينية شاهرة سيف السلطة السياسية. هذا التحالف التاريخي المأساوي بين السلطتين، لم ينتج ولن ينتج إلا المجازر للحريات".

ويستطرد: "إذا كانت السلطة الدينية ترغب رغبة حقيقية في حماية الدين الحقيقي، فما عليها إلا أن تفك ارتباطها بالسلطة، وتخاطبها من موقع الشعب البسيط المؤمن، وأن ترفع صوته هو، وتجسد مطالبه هو، أي الشعب، وذلك بدل أن تخاطب الشعب من مواقع السلطة".

ويذكر أنه اذا كانت السلطة السياسية مخلصة في حرصها على الوحدة الوطنية في لبنان، فما عليها إلا أن تلغي الحاجة المادية للأيديولوجية الغيبية، بتحويل نفسها من دولة امتيازات، إلى دولة حقوق متساوية لبشر متساوين رغم كل شيء، وفوق كل قوة.

ويشير فراج إلى أن ماركس في مقولته يرد الشقاء الديني لمصدره الأساسي، أي الشقاء الواقعي. فهو بهذا المعنى انعكاس له واحتجاج عليه، أي أنه صورة من صور الرفض لهذا الواقع. ويستدل من نص ماركس هذا عدم قدرة الإنسان على التكيف مع عالم أفرغه الاستغلال المادي والطغيان السياسي ومرض الإقتناء والتملك من محتواه الروحي والفكري، ما اضطره إلى البحث عنهما خارج هذا العالم، وهو ما عبر عنه السيد المسيح بقوله: "إن مملكتي ليست من هذا العالم".

يتفق ماركس والمسيح على أن العالم لا يصلح لسكن الإنسان كما هو. لكن بينما يهجَر المسيح ساكنيه لعالم مثالي آخر، يرد ماركس هذا العالم لساكنيه

ماركس والمسيح كلاهما يتفقان على أن العالم لا يصلح لسكن الإنسان كما هو، ولكن بينما يهجَر المسيح ساكنيه إلى عالم مثالي آخر، يرد ماركس هذا العالم إلى ساكنيه.

اقرأ/ي أيضًا: ماردٌ يسرق شبح ماركس: تدمير العالم من أجل إنقاذه

يشرح فراج أن الدين أفيون للشعب "لكنه ليس الألم. وزوال الألم هو الشرط للاستغناء عن المخدر/الأفيون وليس العكس". فإذا قمنا باستئصال الدين فلن يزول الألم، ذلك أن مصدر الألم والذي هو مصدر شقاء الإنسان، هو في الطبقية التي تقوم بتأبيد الفقر واستدامة الجهل.

ماذا عن "نقد الدين مقدمة لكل نقد"؟

المقولة الثانية المرتبطة بالمقولة الأولى والتي ذكرها ماركس: "يعتبر نقد الدين في ألمانيا مقدمة لكل نقد"، فإنه كما يتضح يتحدث هنا عن ألمانيا بالذات بكل تراثها الفسلفي المثالي. ونقد ماركس ينفذ من نقد الدين في ذاته إلى نقد الدولة الدينية التي تحول الدين إلى مخدر للشعب ومسوغ لخطاياها، وبهذا يتحول النقد الديني إلى نقد سياسي للدولة الطبقية التي تغلف استغلالها بأيديولوجية دينية.

إن فهم ماركس للعلاقة بين الدولة والدين، يضع هذه المسألة في الضوء. يقول ماركس في كتابه "حول المسألة اليهودية"، إن "الدولة المسماة دولة مسيحية، هي النفي المسيحي للدولة، وليست أبدًا التحقيق السياسي للمسيحية. إن دولة كهذه ليست تحقيقًا للجوهر الإنساني في الدين".

ويشرح فراج أن ماركس "إذ يقف من الدين موقفًا نقديًا، فإنما يقف على أرض سياسية تفصل الجوهر الديني الذي تسحقه الدولة المسيحية -وأي دولة دينية- عن المظهر الذي تبدو معه حامية للدين".

وفي رأيه فإن نقد الدين هنا هو عملية كشف أيديولوجية للأقنعة السماوية، وإيقاظ لأذهان الجماهير من مخدر سياسي في أساسه، والجماهير إذ تعي الجوهر السياسي للمسألة الدينية، تحول وعيها المستجد إلى قوة نضالية تزلزل الأسس الأرضية المادية لضياعها وهجرتها عن عالم تصنعه ويسحقها، تغنيه ويستلبها.

وينقل فراج مقولة ماركس المذكورة في كتابه "حول المسألة اليهودية"، التي يقول فيها: "إن الدولة التي تعطي امتيازات ذات طابع ديني لا يمكن أن تكون دولة حقيقية، والدولة التي لا تستطيع الاستغناء عن الأيديولوجية الدينية هي دولة ناقصة. كما أن الدين الذي لا يستطيع أن يعيش إلا تحت سقف السلطان ليس دينًا حقيقيًا".

ويذكر فراج أن الروحية الماركسية أقرب إلى الإيمان الحقيقي من كل المؤمنين بالوراثة، وفي هذا الضوء يكون ماركس مثالًا أعلى للمؤمن الحقيقي بالإنسان، بعد أن أعاد للإنسان ذاته العليا التي أطلق عليها عبر التاريخ أسماء لا تعد ولا تحصى.

إن ماركس يؤكد أن تصورات الجمهور عن الآلهة هي من غرس الطبقة التي تمسك بزمام السلطة القهرية والتي تحتوي دائمًا السلطة الروحية.

ويرى فراج أن الماركسية هي الإيمان الحقيقي بالأرض وبالإنسان الواقعي الذي يختزن في ذاته إمكانات تحقق الإنسان الأعلى، الذي هو محور رؤيا الماركسية.

الروحية الماركسية أقرب إلى الإيمان الحقيقي من كل المؤمنين بالوراثة، وفي هذا الضوء يكون ماركس مثالًا أعلى للمؤمن الحقيقي بالإنسان

تلك الإمكانات التي يمنع من تحققها عالمٌ طبقي جشع، لم يترك فيه حب المال والاقتناء مكانًا لأي حب إنساني آخر. والمجتمع الشيوعي هو الذي يُمكّن طاقات الحب من التفتح، وعندها سيكتشف الانسان النار من جديد.

 

اقرأ/ي أيضًا:

المانيفستو في ضيافة القرن 21

لماذا نحتاج إلى "الفردنة" في المجتمع الحديث؟