20-أبريل-2020

تمثال لـ رنا الرملاوي في غزة

"من عائلة كورونا الحاكمة إلى سيد مظلوميات الطبيعة، الحامل الموضوعي للمعاناة الإنسانية، الفلسطيني السوري الخصب.. أمّا بعد؛

بعد اطلاعنا على مسيرتك على سطح هذا الكوكب ونجاحاتك منقطعة النظير في النجاة، نرسل لك أحد فرساننا الأشاوس الذين أثبتوا كفاءة عالية، ومرّغوا أنف الكائن الذي لا تحتمل جشاعتُهُ في التراب بعدما حجرَ أكثر من ثلاثة مليارات إنسان في منازلهم، وأربك حكومات وقتل وشرد الآلاف بلا رحمة؛ إنه فارسنا كوفيد 19، يطلبك في نزال حي في منفاك الأخير خارج أرضك وبلا جمهورك. شاء من شاء وأبى من أبى".

استلمت الرسالة على هيئة حرارة عالية في الجسد تجاوزت الـ38 درجة، والتهابٍ في البلعوم وسعالٍ خفيف جاف، وتخلفت عن المعركة في البداية ظنّا مني أن كوفيد التاسع عشر لم يحضر بعد، وأنها أعراض انفلونزا عادية كنت قد هزمتها سابقًا، لكنْ بعد أربعة أيام لم يعد لدي أي خيار سوى المواجهة للبقاء حيًّا، بعد أن خذلني المستشفى المحلي وأغلق أبواب قلعته، ورمى لي حراسها ببعض علب الباراسيتامول والمعقمات، وقالت لي قائدة قسم الإسعاف: لا توجد أسرّة، الأجهزة في القلعة مخصصة للمقاتلين القدامى فقط، عدْ إلى المعركة وقاوم أيها الشاب.. اجمع أنفاسك والتقط صبرك وارم هذا الجوال من يدك وانبطح في سريرك كما لم يفعل أجدادك في حروبهم السابقة، وهيئ نفسك أنها معركة حياة أو موت.

في اليوم الخامس

غابت الشمس باكرًا على غير عادتها وحل ظلام طويل، وبدأت أتلمّس جسدي بحثًا عن مكان لم يحتله الألم بعد لعلي أدرك أني ما زلت حيًّا في مكان ما، وأنه لا شيء يوجعني على باب القيامة.

بدأت أشعر بثقل كوفيد يقف فوقي، قدم على رأسي وأخرى على ظهري، ويضغط صارخًا بقوة كجندي دكتاتور، أتوسله بأنين خافت أن أرفع رأسي فقط، أن أحظى بشربة ماء، أن يسحب إصبعه الناري من حلقي لأتنفس.. دخان أخضر يغطي المكان، أتوسله أن يفك قيدي بلا جدوى.

في اليوم السادس

استطعت أن أتسلل خلف خيام مقاتليه المرابطين في صدري، حصلت على بعض الأوكسجين والماء وكتبت رسالة إلى أمي في دمشق وضعتها في زجاجة ورميتها في نهر السين، وما إن انتهيت حتى كشفني سعالي الجاف وأيقظ الآلام في حلقي ونفخ أحد المقاتلين في الصُّور، فحلّق كوفيد بجناحيه السوداوين عاليًا فوق سماء غرفتي الصغيرة، هنا في جنوب باريس، وهبط علي بسرعة خيال الأنبياء وغرس رماحه الصغيرة في عنقي، ورماني في سريري، وأضرم نارًا في جسدي، فكان لها شرر عظيم ولهب مرتفع، لم توقَدْ قط نارٌ مثلها.

في اليوم السابع

أحكم فرسان كوفيد وثاقي وبدأوا التحضير لمعركتهم الأخيرة في الانقضاض على صدري. بينما أنا هائم في هلوسات حمى النار المضرمة في رأسي أستمع لموسيقى أفلام ميازاكي قادمة من صالون منزلي الصغير، دخل روبيرتو باجيو ليعتذر لي عن ضربة الجزاء التي أضاعها في مونديال 1994، وتقدم نحوي ومسح على رأسي وقبلني قبل أن يجلس على طرف سريري بلباس منتخب إيطاليا الرسمي آنذاك وقال لي: "الوضع في إيطاليا ليس أقل سوءًا يا صديقي".

أحاول فتح عيني لأراه جيدًا فأسمع صوت إدوارد سعيد غاضبًا في وجه ميشيل فوكو، رافضًا زيارته لي قائلًا له: "صحيح أن أبو غابي لم يقرأ لي الكثير بالمقارنة بك، وربما لم يقرأ شيئًا وكان يدعي ذلك في كثير من الأحيان لكني أرى نفسي مضطرًا للحضور، بينما أنت تأتيه مخيبًا آماله بعدما عرف مؤخرًا أنك لست سوى صهيوني بائس، سوف يزعجه حضورك بكل تأكيد".

لم يرق حديثهما لأمي التي كانت تجلس بجانب السرير أرضًا تطوي غسيلها الرطب وتبتسم قائلة: "شو بتحب أطبخلك يا أمي؟ أنت بس قوم!". فيجيب ياسر عرفات وهو يشد حزام بنطاله العسكري خارجًا من حمام غرفتي: "اعمليلنا صحن مفركة لانه والله هالحصار أنهكنا وهلق بيجوا الشباب كمان بتغدوا معنا ولا تخافي على حمودة".

أحاول أن أقترب لألمس وجه حبيبتي التي تمد يدها لتلمس يدي أيضًا إلا أني أصحو على أصوات تصفيق حار من الجيران يحيون به الطواقم الطبية في البلاد.

ووسط عتمة مطبقة في المكان، أدرك أن المعركة لم تنته، وأن ذاكرتي قد أرهقت كوفيد التاسع عشر وأني ما زلت حيًّا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

حكاياتنا التي لن نرويها لأحد

الفيروس النيوليبرالي المُعولم