10-أكتوبر-2018

تصوير: شتيفان ماريا روتر

يمتلك الشاعر في مقاربته للعالم، بقصد الفهم أو الخلق أو العقلنة، كمًّا وافرًا من الكلمات والأخيلة والمشاعر المتدفقة إذا ما قورن بما يملكه الموسيقي الزاهد بأصوات نغماته التي لا تتجاوز عدد أصابع اليدين. في مواجهة العالم الذي لا يكفّ عن التوالد والتنافر والتشظي لا يملك الموسيقيّ من حيلة سوى إكثار قليل أصواته عبر تجميعها في قوالب ثابته تدعى المقامات.

المقامات في عُرف الموسيقي مدخل لتحرير العالم من كسله، ولتحرير الإنسان من فائض حزنه أو فرحه، كما هي مدخل للتعبير عن مشاعره كما جاءت في سيرتها الأولى أو عما لحق بها من إثم العالم.

في مواجهة العالم الذي لا يكفّ عن التوالد والتنافر والتشظي لا يملك الموسيقيّ من حيلة سوى إكثار قليل أصواته

في مشهد "فرقة بيت العود العربي - قسم القانون" التي يقودها المصري بسام عبد الستار، على مسرح "بيير بوليز سال" في برلين، نجد أنفسنا أمام ستة عازفين مغمورين بالضوء، تنوء أناملهم المرهفة الحس في مهمة نسج ملاط العالم الذي جاء منه الكون، فيما عيونهم وقلوبهم متعلقة بنسج حكايات العالم الذي دلفنا إليه.

اقرأ/ي أيضًا: نصير شمّه يشرف على "أيام الموسيقى العربية" الثانية

أمام صندوق الموسيقى، آلة القانون، الذي طوّره الفيلسوف والموسيقي الفارابي قبل ألف عام، متتبعًا أثر آلة الهارب الفرعونية، نجد أنفسنا أسرى عزف الشابة السورية مريم عّمار (11 عامًا)، وهي تحكي لنا "قصة حب شرقية" لمؤلفها نصير شمّه. في الحكاية كما ترويها الموسيقى، نستعيد قصة المُريد الذي اقتحم الصومعة على خالقه لا ليجاوره أو ليسكن عند حافة عوالمه، بل ليندمج معه كي يصيره مسترشدًا برؤية الحلًاج للحلول الإلهي "كأننا روحان حللنا بدنا".  تطرق يد مريم اليسرى على أوتار قانونها فتصيُّره دفًّا أو طبلًا، فتأخذنا إيقاعاته إلى دائرة المريد الغارق في أسر معشوقه. تلامس يديها اليمنى أوتاره المشدودة إلى قلبها فتصيره عودًا، فنشعر بأنفاس المريد وهو في طريقه من دائرة إلى أخرى وصولًا إلى نقطة المحو التي اختارها طائعًا.

من "قصة حب شرقية" على يد مريم إلى "قصة حب غربية" على يد الفلسطينية ياسمينة منصور (15 عامًا) لمؤلفها فرانسيس لاي، الثيمة واحدة والعشاق كثر، حيث نتعرف على الحب كجزء من عالم أكبر هو الحياة ذاتها، بوصفه حالة اشتباك دائم معها. ننتصر أحيانًا ونهزم أحيانًا أخرى، حالنا حال الموسيقى التي تحكي عنا بلغتها، حيث تتناوب على أخذنا بين حالة الطمأنينة والثقة بالنفس تارة إلى حالة اللايقين تارة أخرى.

تبدأ الموسيقى على يد ياسمينة هادئةً ثم تتصاعد لتتراجع قليلًا، ثم تتقدم لتهبط وتصعد وهكذا دواليك، إلى الدرجة التي ننسى فيها أنفسنا على أوتارها، كما لو أن حبّنا للحياة ليس أكثر من سلسلة طويلة من الفرح والخذلان المتناوب المسكر والشقي معًا.

في علاقة بسام عبد الستار - قائد الفرقة - مع الموسيقى، تجتمع الطرافة مع الحلم حيث الآباء يحلمون والأولاد يغامرون في تجسيده. ففي الحكاية التي يرويها بسام عن والده، نحن أمام والد يتحايل على عجزه بالقدرة على عزف الآلات الموسيقية التي كانت ترافق فرقة الابتهالات الدينية في "دار الأوبرا المصرية" التي كان منشدًا فيها، عبر اقتنائها وجعلها زينة في بيته علّ واحدًا من أبنائه يقع في حبائل غوايتها.

ما كان حلمًا يصير حقيقية حين يقع بسام في حب آلة القانون، التي تجمع في داخلها كل قدرات الآلات الموسيقية الأخرى في التخت الشرقي، كما لو كان الأمر تجليًا لحلم الوالد الراغب باجتياح كل آلات العالم الطافحة بالموسيقى.

في المقطوعة التي ألفها بعنوان "كابرس الفصول الأربعة"، يرينا عبد الستار أوتار القانون التي تصير تارة غيتارًا، وتارة أخرى عودًا، لنعاين فيها ربيع حياته وخريفها في الحالتين، شتاء عزلتنا الطويل عن البسيط والطفولي فينا، مشاعر الطائر وهو يستعيد سماءه المحتجبة خلف الغيم والبعيد.

في مهرجان "أيام الموسيقى العربية" 2018، الذي أشرف على إدارته الفنان العراقي نصير شمة للموسم الثاني، ثمة قصدية في التعامل مع الموسيقى العربية كمنتج فني يقوم على مبدئي الخلق والتجديد. ففي مقطوعة "نوستاليجا" للفنان ياني، يغامر العازف السوري أحمد الشيخ (18 عامًا) في اكتشاف البيانو الكامن في القانون، لا من حيث توظيف تقنية العزف بالأصابع العشر فحسب، بل بخلق الإيهام بأن المرء في حضرة بيانو حقيقي من مفاتيح بيض وسود، وبأن الحنين الذي يختبره الشيخ عبر أوتار قانونه، أو قلبه، لم يعد يخصه وحده، بل هو حنين قابل للعدوى. يتلاعب بالسوري الذي تستيقظ فيه ذكرى البيت الذي لم يبق منه سوى الظل المنكفئ على نفسه، كما يتلاعب بالألماني الذي تستيقظ فيه براءة العالم. وفيما يجد أحمد ضالته في ياني تجد السورية ليلى عمار ضالتها بابن جلدتها الموسيقار فريد الأطرش، الذي وإن عاش معظم حياته في مصر، فإن سوريته ظلت تتسرب إلى ضلوعه عبر الموسيقى، التي نقلتها لنا ليلى باقتدار في معزوفة "قلبي ومفتاحه"، كما لو كانت هي الأخرى تبحث عن العود في ظل المتاهة الكبيرة في أوتار القانون.

يغامر العازف السوري أحمد الشيخ، ذو الـ18 عامًا، في اكتشاف البيانو الكامن في القانون

مع التونسية هناء بوخريص (17 عامًا)، يشعر المرء بأنه أمام عازفة تقبض على القانون بكل جوارحها، على الرغم من الحجم الكبير نسبيًا له، ولو قدّر لهناء ألا تكون عازفة فأني أكاد أتخيلها نسّاجة سجاد من الطراز الرفيع، ذلك أن يديها قادرتان على نسج أوتار القانون نفسه. في مقطوعة "عيني وأذني"، العائدة إلى مقطوعة تركية معاد توزيعها على نحو حديث، تجرب هناء نقل تجارب المرء الحسية والفكرية مع المعرفة المتأتية من العين والأثر النفسي الذي تحدثه تلك التجارب في ذات العارف، لذا لا غرو أن تكون الدفقة الموسيقية متنوعة وتشمل أوتار القانون كله، إلى اللحظة التي يتم فيها كتم الموسيقى إيذانًا بالانتقال للحديث عن المعرفة المتأتية عن طريق الأذن، حيث تتنوع الأصوات المتأتية عن الطرق على الأوتار، لا من النقر عليها أو مداعبتها.

في العزف الجماعي لبسام عبد الستار وتلاميذه الخمسة، نجد أنفسنا أمام ستة آلات بدلًا من واحدة، الأمر الذي يعني أننا أمام جميع آلات التخت الشرقي: العود والكمان والناي والطبلة، مختبئة داخل آلة واحدة.

اقرأ/ي أيضًا: عابد حرصوني.. تروبادور سوري في هامبورغ

لم يختبر العازفون الستة، في قطعة "أغدًا ألقاك" لملحنها محمد عبد الوهاب، القدرة على تحقيق التناغم والانسجام بالعزف كما لو كانوا عازفًا واحدًا، ولا بالقدرة على إخراج آلات التخت الشرقي من أعماق أوتار القانون، وإنما قدرة كل واحد منهم في عزف جزء صغير من جملة أكبر على نحو متزامن، الأمر الذي بدت فيه يد كل واحد منهم كما لو كانت في وضعية من يهمّ بمناولة يد الآخر بالموسيقى. مما دفع الجمهور الألماني لأن يصفق كثيرًا لا عرفانًا بهذا السحر المدوخ، ولا اعترافًا بالسوية العالية لعازفي الفرقة وحسب، بل بتوجيه الشكر لهم على هذا الفرح الذي أحضروه بأناملهم إلى العالم.

 

اقرأ/ي أيضًا:

بليغ حمدي.. أكبر من النسيان

محمد الموجي.. طريق مختصر إلى القلب