ضحكات أبو عزو كانت تملأ الكافتيريا وهو يتمايل ممسكًا بصينية فوق رأسه:

ـ لو سمحت يا معلم، حط لي خمس فطاير، ولا تنسَ الحامض كالعادة.

 ولكن صاحب الكافتيريا بادره بالسؤال:

ـ هل شاركت بالاستفتاء يا أبو عزو؟

ردد أبو عزو الكلمة ساخرًا:

ـ استفتاء..! استفتاء يعني ايش؟

 قال صاحب الكافتيريا شارحًا:

ـ يا أبو عزو. سوف أضع لك سبعة فطاير هذه المرة، ولكن عليك أن تذهب الى مركز الاقتراع أولًا، حيث تجدد انتخابك لسيادة الرئيس، هناك عند دائرة البريد ستجد خلقًا كثيرًا حول المركز، وربما تبيع كل الفطائر التي معك.

 قال ذلك وهو يضع له الفطائر في صينيته.

أشار أبو عزو بيده إشارة تنم عن عدم اكتراث وهو يقول:

ـ أوه. من يهتم، شاركتُ أو ما شاركت.

 تلفت صاحب الكافتيريا حوله، ثم قال محذرًا وبصوت هامس:

ـ سيثقبون بطاقتك الشخصية يا أبو عزو، ومنها بيعرفوا ان كنت شاركت أو ما شاركت.

جحظت عينا أبو عزو، وسأل بتوسل:

  • حلفتك بالله. صحيح يا معلم؟

 قال صاحب الكافتيريا بنفاذ صبر.

ـ طبعًا صحيح يا أبو عزو، رُحْ، رُحْ لا تضيع الوقت.

قال أبو عزو بصوت شاكٍ:

ـ طيب شو لازم أعمل؟

صرخ فيه صاحب الكافتيريا بصوت عالٍ.

ـ يا أبو عزو، لا تضيّع الوقت، هناك يشرحون لك كل شي.

غطى أبو عزو الصينية بقطعة كبيرة من القماش الملون، وثبتها بشريط مطاطي، ثم وضعها على رأسه وهو يتمتم بكلمات ما، ثم تناول المسند الخشبي بيده الأخرى، واتجه حيث مركز البريد.

كان أبو عزو في أوائل العقد السابع من عمره، يبيع فطائر "لحم بعجين" التي يشتريها من هذه الكافتيريا القريبة من حيّه، ثم يبيعها بربح بسيط، وكان رغم نحافته وظهره المحني قادرًا على اجتياز شوارع حي بكامله كل يوم، وكان صوته الجميل المرح يصل إلى مسافة بعيدة وهو ينادي على فطائره، وكان يعيش وحيدًا في غرفة صغيرة على طريق تل زيوان في ضواحي قامشلي، ابنه عبد العزيز كان قد سافر منذ عام الى لبنان بحثًا عن عمل.

 

 كان يوما جميلًا صحوًا، والنسمة الباردة كانت تزيد من عذوبة شمس البكور، انطلق أبو عزو ينادي:

ـ قرّب قرّب قرّب، سخنين يا لحم بعجين. أحلى فطائر للحلوين يا لحم بعجين.

أمام مركز الاقتراع تجمهر حشد كبير من رجال ونساء واطفال، ومن مكان ما. كان صوت نجاح سلام يصدح بنشيد وطني شائع، كان صوتها جميلًا وقويًا، بث في أبو عزو شعورًا عارمًا بالحماسة والفخر، ثبت الصينية فوق رأسه، وبدأت خطواته تنتظم وتجاري إيقاع النشيد تَم تَرَم تراام، وبدأ يُقطِّع نداءَه ليناسب رِتمَ النشيد

ـ لحم بعجين. يا لحم بعجين.

باع فطيرتين لامرأة معها أطفال، زعقت فيهم وهي تقطع وتقسم الفطائر بينهم.

على الطرف الآخر من الشارع، ناداه بعض الصبية، قطع أبو عزو الشارع قفزا، تَمْ تَرَم تراام، كانوا من عمر ابنه عزو، وكانوا يتضاحكون ويتدافعون بكثير من الصخب، طلبوا منه ثلاث فطائر، وجمعوا من بعضهم قطعا نقدية صغيرة أفرغوها في كفه، وجدها فرصة ليسألهم:

ـ ابني. الله يخليكون، والله أنا ما بعرف شي، ما بعرف شي أبدًا، قولوا لي. شو لازم أعمل مشان أنتخب؟

ارتفعت اصواتهم بالضحك، قال أحدهم وهو يمضغ الفطيرة

ـ بسيطة عمو. بيعطوك ورقة عليها ثلاث دوائر.

لكمه أحدهم في بطنه، وقال معترضًا:

ـ لا لا عمو، دائرتين اثنتين فقط.

تابع آخر:

ـ واحدة حمرا وواحدة سودا، فقط ضع اشارة بالقلم على الحمرا.

قاطعه آخر:

ـ اتركوه بحالو، شو هو رايح يلعب روليت ياخي؟

ـ لا لا عمو. واحدة حمرا وواحدة خضرا، لا تضيعوا عمو، حرام عليكم، والله تخربوا بيت المسكين.

كان ابو عزو يضع القطع النقدية في جيب مريول أبيض مشدود الى خاصرته، وينقل عينيه بينهم بارتباك وحيرة، سألهم:

ـ وأنتو هل انتخبتو؟

تعالت اصواتهم بالضحك وهم يقولون بسخرية:

ـ نحنا لسه عيال يا عمو. لسه عيال، خاصة قاسمو، انظر إليه، هل باين عليه أنه رجال.

زادت قهقهاتهم وهم يتدافعون ويلتهمون الفطائر.

 

على مدخل المركز، رجل ضخم يضع نظارة سوداء، كان واقفًا ينظر حوله، خاصرته كانت منفوخة بمسدس بادٍ تحت قميص قصير وضيق، اقترب منه ابو عزو، وسأله مترددًا:

ـ سيدي. ممكن أخلي المسند والصينية هون؟

 زعق فيه الرجل:

ـ طبعًا خليهم هون، بدك تدخلهم على الاقتراع.؟ حطهم ورُحْ وقّف آخر الصف هناك.

ـ حاضر سيدنا.

بخطوات سريعة اندفع أبو عزو ووقف في آخر الطابور.

كان مرتبكًا وخائفًا، لا أحد قال له ماذا يفعل، ولا كيف يتصرف، نظر الى المرأة الواقفة أمامه، كانت طويلة وممتلئة، قال لها:

ـ بنتي. بنتي الله يخليكي، أنا بيّاع لحم بعجين، وما بعرف لا أقرا ولا أكتب، ولا بعرف شي، شو لازم أعمل يا بنتي؟

قالت المرأة ضاحكة:

ـ يعني أنا اللي بعرف! أمس طول الليل أولادي وبناتي يعلموني، ولسه أنا محتارة، والله ما بعرف عمو، بيعطوك قلم، وانت بس حط اشارة على الدايرة الحمرا. لا لا. الدايرة الخضرا.

كان أبو عزو يقترب من الصندوق شيئًا فشيئًا، وكان وجيب قلبه يتصاعد وأنفاسه تتلاحق، وشعر بجفاف غريب في فمه، لقد كان مجرد الإمساك بالقلم تجربة مريرة بالنسبة له، كان من عادته أن يسأل الموظفين في الدوائر الرسمية مستعطفًا:

ـ سيدي. ممكن أبصم، أنا أُمي وما بعرف شي.

رجال آخرون يقفون الى جانب طاولة كبيرة، أشار أحدهم إلى ورقة وقلم، خمّن أبو عزو من شفته الممطوطة أنه يبتسم، فأمسك بالقلم من على الطاولة، وأصابعه النحيلة ترتجف، ورسم إشارة على دائرة، ثم رمى بالقلم من يده كأنما يتخلص من قطعة محمّاة.

رجل واقف بجانب الصندوق، وجهه مصقول تمامًا، أشار إلى شق في صندوق كبير، هَمْهَمَ بصوت خفيض:

ـ ضعها هنا. ضعها هنا.

ثم ثقب له بطاقته الشخصية وأعادها له.

بخطوات عجلى ومتعثرة اتجه نحو باب الخروج، تذكر الصينية، عاد إليها، وضعها على رأسه، ثم تناول المسند الخشبي، وهرول مبتعدًا عن باب المركز لا يلوي على شيء.

حالما وصل الشارع التقى الصبية الأربعة عند الزاوية، صفقوا له، صرخ أحدهم بلهجة مخاتلة:

ـ خلصت عمو، مين انتخبت؟

قال آخر بلهجة ساخرة ممسكًا بكتف أبو عزو:

ـ وين حطيت الإشارة عمو؟ على الأسود؟

قال أبو عزو:

ـ لا والله ابني، حطيتها على الأخضر. لا والله يا ربي على الأحمر.

فجأة ران على الجميع صمت ثقيل، وتبادلوا نظرات عكست مفاجأة ما، ثم علت من حوله صرخات استهجان واستنكار

ـ معقول عمو؟

يقول آخر بصوت خفيض:

ـ يعني مو موافق على سيادة الرئيس؟

ـ والله يفرجوك نجوم الضهر

ـ والله يحطوك بالدولاب

ـ هدول ما يخافو الله

كان أبو عزو قد تجمد في مكانه مأخوذًا، يحدق فيهم بعينين جاحظتين، وشفاه بيضاء جافة.

 تدخل أحدهم بجدية، مؤنبًا صحبه، ومربتًا على كتف ابو عزو بنغمة مواساة:

ـ عادي عمو عادي، توكل على الله، بس لا تقول لحدا.

 

 كل ما حصل بعد ذلك كان بمثابة السقوط في دوامة جرفت أبو عزو إلى أعماق هوة سحيقة من الضياع والقلق والخوف.

 قال له صاحب الكافتيريا:

ـ بعت خمس فطائر.؟ ماشالله عليك، أكملْ يومك وسوف تبيع الفطائر الأخرى أيضًا.

ولكن أبو عزو لم يتحرك، ظل ساكنًا متخشبًا لا يريم، كمن أصيب بمَسٍّ.

 تساءل صاحب الكافتيريا وهو يتفرس في وجه أبو عزو

ـ مالك يا أبو عزو، هل أنت بخير؟ هل لديك مشكلة؟

حشرج أبو عزو بصوت مخنوق:

ـ أنا. أنا حطيت الإشارة على الدايرة الحمرا.

تفرس فيه صاحب الكافتيريا للحظات قبل أن يفهم الموقف، ثم سأل مستنكرًا وبصوت هامس:

ـ تعني انك ما حطيت الاشارة على الدايرة الخضرا؟

أطرق أبو عزو بانكسار المغلوب على أمره.

 بذات الصوت الهامس قال صاحب الكافتيريا من بين أسنانه:

ـ الله يخرب بيتك. هل رآك أحد؟

قال أبو عزو بصوت مبحوح

ـ ما أعرف. يمكن الرجل الذي ثقب لي بطاقة الهوية، كان بجانب الصندوق.

 قال صاحب الكافتيريا مربتًا على ظهره:

ـ لا بأس، لا بأس، المهم ألا يعرف أحد.

مشى أبو عزو بضع خطوات بتثاقل، ثم توقف وسأل وهو يكاد يبكي:

ـ ولكن ماذا لو عرفوا.

 كانت الصينية فوق رأسه، والمسند بيده اليسرى، وكان يمشي بخطوات بطيئة، وعينين زائغتين، غير قادر على النداء.

قريبًا من بيته، قرر أن يعرج على بيت الأستاذ إسكندر. إنه مدير مدرسة وهو يعرف كل شيء، وسوف يشير عليه كيف يصحح خطأه.

قال الأستاذ اسكندر وبطنه تهتز من الضحك:

ـ يا أبو عزو، كان لازم تأخذ بالك شوي، كان لازم تسأل.

قال أبو عزو راجيًا:

ـ طيب لو طلبوني، ايش اقول لهم؟

 قال الاستاذ مواسيًا:

ـ يا رجال روح نام، ح يعرفوا من وين؟

 بصوت مخنوق سأل أبو عزو:

ـ طيب.. ولو عرفوا؟

 

 وضع المسند في غرفته الصغيرة، ووضع فوقها الصينية، كان يحدث نفسه، بأنه يجب أن يتصرف قبل أن يطلبوه هم، وإلا فلن يصدقوه، نعم لن يصدقوه.

رمى بجسده المكدود فوق المرتبة الإسفنجية، من نافذة صغيرة كان بصيص من الضوء يتسلل إلى غرفته المظلمة، حرقة حادة بدأت تفري معدته، إنها القرحة مرة أخرى، تذكر أنه لم يأكل شيئًا منذ الصباح، اقتطع مضغة من الفطيرة في الصينية، لاكها ثم ابتلعها بصعوبة، كان حلقه جافا، مد يده الى إبريق بلاستيكي، أخذ منه جرعة ماء فاترة، ثم جلس لاهثًا يحدق في الجدار.

لديه قناعة تامة بأنه لو ذهب إليهم قبل أن يطلبوه لتفهموا حماقته وجهله، ولكن إن طلبوه هم أولًا فإنها مصيبة، نعم مصيبة حقيقية، ولكن كيف يذهب إليهم بنفسه، ان ما يقوله الناس عنهم لا يكاد يُصَدّق، يعلقون الناس في السقف، يضربونهم بكابلات خشنة، يسومون الناس أشكالًا غريبة من التعذيب، أخبارٌ مرعبة يتناقلها الآخرون همسًا، هو لم يكن يتابع هذه الأخبار، فهي لم تكن تعنيه في شيء، حتى عندما قالوا إن جثة أبو رياض قد رميت على أهله منذ شهرين، وأنه دفن بصمت ودون مراسم عزاء، تظاهر كما الجميع أنه لا سمع ولا رأى.

 

عندما لمع اسم أبو عمر في خاطر أبو عزو، قال لنفسه نعم هذا هو الحل، إنه المختار. مختار الحي، هو وحده الذي سينقذه من هذه، المصيبة، إنه غني جدًا، وهو قوي جدًا، ويعرف كل المسؤولين في البلد، ويعرف كيف يتصرف معهم، يا إلهي كيف فاته ذلك؟

كان المساء قد خيّم، وكان الشارع الذي يسكنه المختار مضاءً تمامًا، ضغط بإصبعه ضغطة قصيرة على زر بجانب باب حديدي ضخم وانتظر، فُتح الباب مصدِرًا صريرًا خافتًا، وظهرت من خلفه امرأة تلبس ثوبًا داكنًا فضفاضًا:

ـ مسالخير بنتي. ممكن أكلم أبو عمر؟

قالت معتذرة:

ـ لا والله عمو، انا آسفة، هو مو موجود، طلع مع ابو قيس وناس تانيين.

وقف مترددًا، حائرًا، كأنما فوجئ بعدم وجوده، تراجع قليلًا، ثم استدرك بكلمات متقطعة وصوت متوسل ضعيف:

ـ طيب طيب بنتي، ممكن تقولي له أبو عزو سأل عنك.. أنا بياع الفطاير.

عاد إلى غرفته وهو يلهث، وكان صدره يعلو ويهبط، وآلام المعدة ما عادت تفارقه، وصداع حاد يكاد يفجر رأسه، تحامل على نفسه معتمدًا على المسند الخشبي للصينية، ليبحث عن حبوب الضغط، أخذ حبة مع جرعة ماء من الإبريق.

اتجه نحو الباب بتثاقل، شد إليه الأكرة طمعًا في بعض الهواء يملأُ به صدره،

بنظرات زائغة تأمل طرفي الشارع، كان خاويًا من المارة تمامًا، وعمود الإنارة كان يُصدر ضوء شاحبًا، فقط خفافيش صامتةٌ كانت تقطع الشارع فجأة ثم تختفي بسرعة، ولم تكن هناك نسمة هواء واحدة، نزل أبو عزو بجسده المنهك منزلقًا على حافة الباب وجلس مستندًا على كوعه، مطلقًا آهة ألم عميقة وخافتة.

تمنى في تلك اللحظة لو كان ابنه عزو قريبًا منه، لا لا. لحسن الحظ أن عزو غير موجود، بل شكر الله ان ابنه بعيد عن هذه المصيبة، لماذا لا يأتون! ليأتوا ويأخذوه، وليفعلوا به ما شاؤوا، فقط هو بحاجة لدقيقة واحدة، دقيقة واحدة فقط، ليوضح لهم أنه ما أساء إلى أحد في حياته قط، ليقول لهم كم هو مسكين وأحمق، وكم هو غبي وجاهل، وأن اي جرذ في جحور هذه المدينة يمكن أن يتصرف أفضل منه، وهو مستعد لأن يقسم لهم، نعم سيقسم بقبر زوجته الطيبة حلّومة، وقبر ابنته الغالية أمّولة، بأنه ما تقصد اقتراف هذه الحماقة قط.

 

انطلقت سيارة اسعاف مغادرة الحي، مطلقة عويلًا متقطعًا حادًا، بضعة رجال ونسوة يتبادلون الحديث أمام باب أبو عزو المفتوح، كان بينهم المختار أبو عمر منتصبًا بقامته الفارهة، هز رأسه بأسف وهو يقول:

ـ لقد أخبرتني عنه زوجتي بعد عودتي من السهرة، مررت لأسأله عن حاجته، فوجدته مرميًا أمام بابه بلا حراك، لا حول ولا قوة إلا بالله.

امرأة عجفاء قالت مستغربة:

ـ اليوم الصبح سمعت صوته، كان عاديًا مثل كل يوم.

قال المختار بأسى:

ـ بس لو كنت أعرف شو كان يريد مني.

امرأة أخرى بدينة كانت تنشج ببكاء صامت، قالت وهي تمسح عينيها وأنفها بمنديل كبير بين يديها:

ـ والله يا مختار. ابنه مسافر من زمان، يمكن وصله خبر مؤسف عن ابنه.

ثم مالت على المختار تسأله بصوت خفيض:

ـ هل تظنه سيعيش يا مختار؟

قال المختار مقلبًا كفيه وهو يغادر:

ـ والله يا أختي ما حدا بيعرف، الأعمار بيد الله.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أنْ تكونَ كيسَ الملاكمة

مثانةٌ ممتلئة بين جسرِي الرئيس والثورة