19-يونيو-2016

Getty

يبدو طرح التساؤل عن "كره" شهر رمضان في ذاته معيبًا وغير مبرر، فشأن المحبة أو الكراهية خاص بصاحبه ولا يجب بحال أن يُناقش فيه أو يُعاتب، طالما أن من أبسط حقوقه أن يحب، أو أن يكره.

لكن الأمر يأخذ منحى شديد الوعورة في مجتمعاتنا، وبالأخص حينما يتعلق الأمر بمناسبة دينية أو طقس تعبدي، تعارف الناس أو لنقل تواطؤوا على إبداء الترحيب والتعلق به، بل واستهجان من يخالفهم عين الرأي أو المسلك تجاهه.

شأن المحبة أو الكراهية خاص بصاحبه ولا يجب بحال أن يُناقش فيه أو يُعاتب

أعرف شخصيًا عددًا لا بأس به من الأصدقاء، الكارهين لكل ما يتعلق بالشهر الكريم، فلا يعتبرونه كريمًا من أي ناحية، بل ويتمسكون جميعهم بدعاء واحد، الملحد منهم قبل المؤمن، وهو "اللهم بلغنا شوال أو ما يتزامن معه من أشهر ميلادية"!

اقرأ/ي أيضًا: التطرف في رمضان.. من ينهي التكفير؟

واستقصاء الأسباب الدافعة لاتخاذ مثل هذا الموقف المستهجن في تقدير الغالبية من المؤمنين بقدسية الشهر وما يتصل به من شعائر وروحانيات، سيحيلنا إلى عدد من الأجوبة التي يراها أصحابها شديدة البساطة والمنطقية في آن.

فما الذي يدفع فلانًا للمغالاة في حب الشهر وأيامه؟ أهي الأجواء المرتبطة بتقديم تعبيرات التواد، والتراحم، والتقارب المجتمعي؟ أم مظاهر الشهر من سلوكيات أخرى كثيرة، معظمها استهلاكي بحت؟

سواء أكان السبب الأول أم الثاني، أم أي سبب آخر، فأنا أكره النفاق والمنافقين، ورمضان بالنسبة لي هو الموسم الأعظم للنفاق، نفاق الخلائق، أو نفاق الخالق. وحقيقة أفضل النفاق التقليدي المعتاد طوال شهور السنة وفي إطار فردي بحت، على مهرجان التجارة الجمعي الفج بشهوات البشر وآلام الضعفاء سعيًا وراء مغنم ديني أو دنيوي كل بحسب ما يدعي أو يزعم.

حسنا هذه وجهة نظر معتبرة، بالطبع تفنيدها ليس عسيرًا، لكن مالي أنا والتفنيد؟! فهي وجهة نظر مطروحة على الدوام، ورأي صاحبها أو أصحابها يخصهم لا يخص غيرهم.

"ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" صدق الله العظيم، لشدة ما أحببت هذه الآية واتخذتها مخرجًا لنفسي من مآزق كثيرة. لذلك أقول، أولًا، لا تزعج نفسك بتذكيري برقم الآية والسورة التي نزلت فيها وسبب النزول إلخ، فأنا رجل متواضع العلم، محدود المعرفة، قاعدتي التي أركن إليها دائما في مثل هذه الأحوال أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وبناء عليه فأنا أتأول الآية بحسب ما أراه مناسبا ليّ وحسابي على الله.

حين يتعلق الأمر بافعل ولا تفعل، تجدني متذمرًا على الدوام

ثم إنني ياسيدي أعزك الله رجل رقيق الحاشية، والطعام والشراب وأشياء أخرى تعلمها أنت بالتأكيد هي قرة عيني، فدع عنك أذى المجادلة في حكمة الشهر والجزاء الأوفى الذي ينتظر من يصومه ويقومه ويحسن إلى نفسه وإلى الناس خلاله، فأنت على كل حال لن تنفعني بشيء إذا ما تهاويت أرضًا من قلة الغذاء أو من ملل الانتظار.

"لا ياعزيزي أنا أفضل أن أحترم شهواتي الآثمة وألا أتخلى عن النعيم العاجل، انتظارا لذاك الآجل، فهنيئًا لك رمضان بما فيه ومن فيه، وإن فكرت يومًا في تناول غدائك خلسة فبيتي مفتوح لك تأتيني أنى شئت".

أحترم بطبيعتي من يحترم ذاته ومكوناتها من فم ومعدة وخلافه، ربما يبدو لنا هذا النموذج مثيرًا للاستياء والازدراء، بل وخسارة في أمثاله فضل الشهر الكريم، والحقيقة أن النموذج متسق مع ذاته ويرى عين ما ترى، لذلك أنت يا من ستصوم وتقوم وتفعل كل مايرضي رب العباد، وهو من لن يفعل أي شيء من ذلك متفقان على نحو عجيب، فقط دقق النظر.

"ياسيدي أنا ماليش مزاج أخش الجنة، كيفي كده أنت ليك حاجة عندي؟!"، بنبرة حادة أنهى نقاشا لم يدم طويلًا، إلا أنه عاد ليستطرد بعد لحظات "حقيقة لا أستسيغ فكرة أن أفعل كذا لدخول ما يسمى الجنة، أو ألا أفعل كذا للنجاة من السقوط في النار، بالطبع تعرف أنني لست ملحدًا، وهي ليست تهمة أو مسبة في اعتقادي، لكن لدي مشاكل، اممم لنقل تساؤلات لم أجد لها جوابًا شافيًا عند الخالق أو أي من رسله، إذا كنت سأعبده رغبًا أو رهبًا ولا مبرر آخر فما قيمة العمل؟، وما مغزى العبادة؟".

ديانتنا، في الحقيقة أي ديانة توحيدية أو رسالية، تفترض في معتنقيها قدرًا من الخضوع والتسليم، كي يتحقق للإيمان كماله وربما جدواه، إلا أنني أجد مسألة التكليف في ذاتها محل نظر، وحين يتعلق الأمر بافعل ولا تفعل، تجدني متذمرًا على الدوام.

أي ديانة توحيدية أو رسالية، تفترض في معتنقيها قدرًا من الخضوع والتسليم، كي يتحقق للإيمان كماله وربما جدواه

"ليس الأمر أنني أريد أو لا أريد، مدار المسألة هو دافعي من وراء وجود الإرادة أو انتفائها، وإن كان ربي يعلم ما بداخلي تجاهه، وأنا على يقين من ذلك ولذلك ارتضيته ربا ليّ، تصبح مسألة ممارسة الطقوس هذه ثانوية بل ووثنية وبلا معنى".

اقرأ/ي أيضًا: أزمة المجاهرين بالإفطار في مصر بين المفتي والقانون

"سأعبده كيفما أحب، ومادمت لا أؤذي أحدًا فأنا في نظر نفسي العابد المثالي لرب أحب أن أظن فيه ذات القدر من المثالية حينما يأتي آوان المواجهة".

دائمًا ما أجد نفسي منحازًا، اتفقت أو اختلفت، إلى من يتمسك بقناعاته وينافح عنها في حماس ودأب، لا يخلو الرأي من وجاهة ولا يخلو كذلك من تعسف، لكنه يبقى رأي معلق في المسافة الفاصلة بين الإذعان والاقتناع، القلب والعقل، التسليم والإدراك.

"أنا ملحد وهذا الأمر كله لا يعنيني بل وأجده طريفًا بمعنى ما أن يعذب الناس أنفسهم ويحرموها الطعام والشراب لقاء الثواب والتقوى وأشياء كهذه! لكن لأصدقك القول أتظاهر، وربما أصوم بالفعل يومًا أو اثنين، لتحصيل مصلحة ما من جهة أمي أو أبي. الغاية تبرر الوسيلة هي شريعتي ومذهبي، وميكيافيللي هو رسولي إن أحببتَ أن نتحدث على طريقة المؤمنين".

ماقل ودل، لا يضيع أمثال صاحبنا وقتًا في التفلسف والتنظير، لهذا أعجبني بصراحة ما قال.

"يا باشا أنا راجل برنس، وكوني برنس يخليني مبقاش زي حد، الصيام صيام القلب، وأنا قلبي في رمضان باوهبه لله، بقية الأعضاء اسمحلي يعني، أنا حر وهم أحرار".

أألقمتك الجملتان الأخيرتان حجرًا؟!، أم أن في وسعك أن تجادل بعدهما، أنا وبشكل شخصي أعفيت نفسي من مغبة الجدل وربما توابعه التي لن تسر أيًّا منا بالتأكيد.

كان هذا غيض من فيض آراء تيسر لي الحصول عليها من هنا وهناك، حول إجماع المسلمين على تبجيل شهر رمضان وفضله ونفحاته.. إلخ، والواقع أن الأمر ليس كذلك، أو هكذا بدا لي.

والواقع أيضًا أن كثيرين منا لا يتعاملون مع الأمر ببساطة ويسر، ويتخذون مواقفًا حادة قوامها الازدراء والنبذ وصولًا للتكفير وإباحة الدم! مما لا يعطي للشهر ما يظنونه مستحقًا من تبجيل وتعظيم.

وبرغم أن وضوح الآية "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، دون أن نكملها لأن صاحب الاختيار مسؤول عن اختياره وبالأحرى عن مصيره، يجعل من شاء الإيمان أو الكفر أولى أن يشاء الصوم أو الإفطار أو ما يساويه من معان لا تقر للشهر بقداسة ما، ولا لفعل الصوم ذاته بحكمة أو غاية معتبرة.

اقرأ/ي أيضًا: عقلية المجتمع الذكورية: رامز جلال مثالاً

الخطر على الدين وما يدعو إليه، يتمثل في سياسات الإفقار والإفساد والتعذيب والإقصاء الممنهجة

إلا أن سيل الفتاوى في مصر كنموذج، لا ينقطع حينما يتعلق الأمر بهكذا أمور يزعم الخائضون فيها، أن بها اعتداء على قدسية الدين، فيم يُغض الطرف عن انتهاكات فاحشة، وممارسات لا إنسانية ولا أخلاقية تعصف بقوام الدين ذاته، والغايات التي أُنزل لأجلها على رسل الله وأنبيائه ولايحرك أحد هؤلاء ساكنًا.

ولعل أحدث هذه الفتاوى ما طالعتنا به الصفحة الرسمية لدار الإفتاء المصرية على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، عشية اليوم الأول من رمضان وجاء فيها: "المجاهرة بالفطر في نهار رمضان لا يدخل ضمن الحرية الشخصية للإنسان، بل هي نوع من الفوضى والاعتداء على قدسية الإسلام، لأن المجاهرة بالفطر في نهار رمضان مجاهرة بالمعصية، وهي حرام، فضلًا عن أنها خروج على الذوق العام في بلاد المسلمين، وانتهاك صريح لحرمة المجتمع وحقه في احترام مقدساته".

وهي فتوى لا تحتاج لمن ينكرها أن يكون من أهل العلم بقدر أن يكون من أصحاب الضمير، ممن يعون جيدًا أن الخطر على الدين ومايدعو إليه، يتمثل في سياسات الإفقار والإفساد والتعذيب والإقصاء الممنهجة، لا في مجرد أكل رغيف من الخبز، أو تناول كوب من الماء أمام الناس أو من وراء حجاب.

وأحسب أن كلًا ممن يعظمون رمضان، أو لا يبالون به، يتفقون على أن رجال السلطة المـتأسلمين، هم الأشد خطرًا على كل ماهو مقدس وأصيل في هذا الوطن المنكوب بحكامه، وأذيالهم من المسؤولين.

وختامًا بعد هذا التطواف الموجز قدر الاستطاعة في مدار حضور شهر رمضان، لعلك تحب أن تسألني من باب الفضول أو استنزال اللعنات أو أي باب آخر، يا تُرى إلى أي الفريقين تنتمي أيها الكاتب/أيها الوغد؟! ولصاحب الصيغة الأولى أو الثانية، أقدم جوابي البسيط: "رمضانك" كريم يا عزيزي، وكل عام ونحن جميعًا بخير.

اقرأ/ي أيضًا:

إعلاميون ضللوا الرأي العام في مصر

باب الحارة... "العرصات" تتكاثر