22-ديسمبر-2015

عندما كانت تنشب معارك بين الأسماك، كنت أتدخل سريعًا للانتصار للضعيف

عندما كانت تنشب معارك بين الأسماك، كنت أتدخل سريعًا للانتصار للضعيف، أطارد السمكة الكبيرة، أو أعزلها في حوض مستقل، وأحيانًا كنت أزيد من مساحة الزرع الطبيعي في الحوض حتى تختبئ خلفه الأسماك الصغيرة.

هل أتوقف عن دعم كوكب الأسماك؟ هل أترك القوي يبطش بالضعيف؟ والمجنون يفسد المياه بغبائه؟

كانت الهواية تستغرقني كثيرًا، فالأسماك تتطلب رعاية فائقة، لأنها لديها قدرة على التدمير الذاتي لعالمها، يمكن أن يأكل السمك الكبير الصغير، فهو غير مهتم في معظمه بالحفاظ على نسله، يفكر بالغريزة الآنية فقط. كما يمكن لسمكة كبيرة أن تضرب برأسها مضخة الهواء لتقطع الهواء عن كوكبها، أو تلتهم النباتات التي تولد الأكسجين، أو تقضم ذيل السمك الآخر، كانت الأسماك تعتمد على رحمتي وقدرتي، فأنا حتمًا لن أترك عالمها ينهار، وكيف أفعل ذلك وقد بنيت كوكبها قطعة.. قطعة.

هذه الثقة في وجودي كمتدخل في الأحداث، خلقت بيئة خصبة للإفساد من قبل الأسماك العدوانية، كما أصابت الأسماك الضعيفة بتواكل شديد، فحتمًا سأنقذها من بطش الأسماك الكبيرة، وهو ما جعلها على مدى فترات طويلة لا تتطور في عقلها أو قدراتها، فعقلها لا يبحث عن حيلة، فأنا الحيلة، وهي في غنى عن تطوير أي قدرات، وما جدوى التطوير إن كانت خلفها قوة خارقة داعمة لها.

أصبحت في حيرة من أمري، هل أتوقف عن دعم كوكب الأسماك؟ هل أترك القوي يبطش بالضعيف؟ والمجنون يفسد المياه بغبائه؟ لكن ما الحل؟ كيف تخرج الأسماك من هذا النفق؟ وبأي تكلفة؟ يقين الأسماك في وجودي كمشارك في صراعاتها يزيدهم ضعفًا. يكفي أن يوقنوا في وجودي كصانع لهذه الحياة. أما تدخلي فليكن بحساب، سأكظم غضبي، سأقدم النذر اليسير من الدعم الذي يضمن ألا تنتهي القصة. وأتركهم هم يخوضون تجربتهم، سأثق بهم، وبأن لديهم القابلية للتطور. 

هبت الأسماك في وجهي حين أعلمتهم بالقرار، ضربوا المياه بذيلهم احتجاجًا، اتهموني بالتقصير، وأن واجبي رعايتهم. فكما أحضرتهم إلى هذا الكوكب، علّي أن أستمر في مساعدتهم.

حاولت التوضيح معاتبًا، ساعدتكم كثيرًا. وضعت معكم أسماك تذكركم دائمًا بضرورة إعمال العقل وعدم الاعتماد إلا على قدراتكم، ماذا كان موقفكم منهم؟ لم ينالوا سوى التخوين والسخرية، وبعضها وجدته ميتًا بعد أن صدمتم رأسه بالكهوف المحارية. ماذا كنتم تنتظرون؟! أن أقفز بنفسي في حوضكم؟! حتى ذلك فعلته مرارًا حين كنت أتدخل في كل مشكلة، فما زادكم إلا ضلالًا. كنت أنا الحجاب بينكم وبين عقولكم، فكلما تدخلت لجعل عالمكم أفضل، أراكم تتواكلون علّي، وكأن تدخلي هو الذي يغذي قابليتكم لتدمير أنفسكم ذاتيًا. سأنهي هذه الحقبة التاريخية التي كنت أنتصر فيها لضعفائكم، من الآن فصاعدًا أنتم من ستديرون شؤونكم وتتحملون نتائج أعمالكم. سأقدم فقط النذر اليسير من الطعام وأضخ الهواء في الماء. لكنني لن أدافع عما أقدمه لكم، بإمكانكم أن تدمروه أو تستثمروه. 

أصبحت الأسماك في مأزق حقيقي، فهي في غيابي تسير في مسار بطيء نحو الهلاك، لم أهتم. وإن كنت أتألم لموت الأسماك... ومرت السنوات.

شاب الشعر ولم يعد سكان كوكب الأسماك هم أنفسهم الذين كنت أرعاهم منذ سنوات، ذهبت أجيال وأتت أجيال، غير أن صديقي وهو يشاهد الحوض شدته تلك السمكة الكبيرة التي تلصق فمها على الزجاج، وكأنه أداة شفط. سألني عنها، قلت له هذه سمكة معمرة شهدت الأحداث كلها، كانت سمكة عادية، لكنها تطورت، وأصبح لفمها هذه القدرة على الالتصاق بالزجاج، ووظيفتها تنظيف الزجاج، وأكل الطحالب الملتصقة به. اسمها "بليكوستومس".

لم يعد الجيل الجديد من الأسماك يشعرون بدوري، فضلًا عن اقتناعهم بوجودي من الأصل. فأنا في وجهة نظرهم خرافة تاريخية

 تعجب صاحبي.. ثم نظر إلى أرضية الكوكب، وسألني عن تلك السمكة صاحبة الشوارب التي تتحرك بنشاط في القاع وقلما تصعد لأعلى. قلت له هذه سمكة "كات فيش". مسالمة جدًا، كانت الأسماك الأكبر تعتدي عليها، لكن اليوم الجميع يكن لها كل احترام، فهي المسؤولة عن نظافة أرضية الكوكب، تأكل بقايا الطعام بالإضافة إلى فضلات الأسماك، كما تنظف النباتات والكهوف، إنها المسؤولة عن ضمان عدم تعفن المياه. لقد وفرت علّي جهدًا كبيرًا.

أشار محذرًا، انظر هذه سمكة تلتهم صغارها، قلت له هذه سمكة "سيكلد" تضع البيض في فمها ثم يفقس ليخرج الصغار، من فمها، تحاول إثبات أن أكل السمك الكبير للصغير ليس قاعدة أو قدرًا لا مفر منه، لكن أمامها مشوارًا طويلًا حتى تقنع بقية الأصناف. 

كان صديقي معجبًا أشد الإعجاب بهذه التطورات، كان فخورًا بي وبكوكب الأسماك. شرحت له كيف أن هذا التطور لم يمر بسهولة، لم تلن عقول الأسماك سريعًا، حاربوا أنفسهم، وقاوموا أصوات التطور داخلهم، والطريف أن كل ذلك كان يحدث باسمي، أوَلست المتكفل برعايتهم؟ نسوا أنني أخبرتهم مؤخرًا أنهم عندي سواء، من يتطور سيتقدم، سواء كان سمكة مفترسة أو مسالمة.

لكن صديقي لمس نبرة حزن في صوتي، وقد كان محقًا. فالجيل الجديد من الأسماك، أصبح يشعر أنه في غنى تام عني، فهو لا يدري شيئًا عن الصفقة التاريخية التي عقدتها مع أجدادهم، والتي كان عنوانها "قلة التدخل مقابل التطور"، فلا يعلم هذا الجيل أنني من أضخ الهواء في الماء، ومن أضع يسير النبات الذي ينمو ويتفرع طبيعيًا، هم كذلك لا يعرفون أن هناك أخطارًا كثيرة أدفعها عنهم، ولا يعلمون عنها شيئًا، لاهم ولا أجدادهم، لأنها أكبر بكثير من عالمهم ولا قبل لهم بها. فأنا الذي أمنع الأطفال المتطفلين من الاعتداء على كوكبهم، ورمي الحلوى في الماء.

لقد وثقت فيهم حتى يثقوا في أنفسهم ويطوروا قدراتهم، وحتى لا يتأسس عالم التخلف باسمي. لكن النتيجة كما ترى، للأسف لم يعودوا يشعرون بدوري، فضلًا عن اقتناعهم بوجودي من الأصل. فأنا في وجهة نظرهم خرافة تاريخية.

اقرأ/ي أيضًا:

لماذا تموت أسماكنا؟!

أول ضحية على الكوكب