11-ديسمبر-2015

ماتيو برتيللي/ إيطاليا

(1)

" المشكلة الأساسية للكوارث هي أن كل أحد يرى نفسه مؤهلًا للخوض فيها"

*  إميل سيوران

دعنا نتحرك بعيدًا قليلًا عن القنابل الحارقة في سوريا وأزمة اللاجئين، بعيدًا قليلًا عن معارك اليمن، عن الارتباك في ليبيا، عن سجون كالمقابر في مصر، عن تفجيرات فرنسا. عن الإعلام العربي، عن التعليم ومآسيه، عن تطور العلاقات بين إيران وأمريكا، عن روسيا وأزمتها مع تركيا، عن مصير الاتحاد الأوروبي، عن أزمة اقتصادية محتملة ستعصف ببعض دول الخليج. عن العلاقات الاجتماعية الموتورة، عن  شتاء بلا غطاء ككل عام، بعيدًا قليلًا عن تجارة الأزمات، عن المستفيدين خلف كل كارثة، عن المادة تأكل كل شيء.

أسهل ما يمكن أن تفعله أن تلجأ إلى الفعل الكلامي معتبرًا أنه جهد مثمر

نتحرك بعيدًا قليلًا إلى تلك المنطقة التي تعبر عن واقع العقل العربي وفضاء عام ليس سوى سجالات وجدالات يطغى فيها الشعور بالعجز وعدم القدرة على تغيير واقع متشابك، واتجه الفعل لا إراديًا إلى حالة من حالات اللجوء إلى تداول النصوص والخطاب التعبيري والصراع بها والتعصب لها.

(2)

"إن ثقافة يحتل المتكلم صدارتها لا تستطيع أن تنجب إلا مونولوجًا ممتدًا في العبث".

شيء ما يمكن أن تقرؤه في هذه الحالة.. وكأنها حالة أشبه بالملاذ الآمن لجسد شُلت حركته تمامًا في زمن الحروب الثقيلة والمصالح المعقدة بين الدول، في زمن أسهل ما يمكن أن تفعله أن تلجأ إلى الفعل الكلامي معتبرًا أنه جهد مثمر، تستهلك خطابًا دوره هو إلقاء اللائمة على ما أنتجته الحداثة والدولة العميقة أو ما أنتجه التراث والأصوليون، أوالتمترس حول نصوص تستخدام مفردات أدبية تخلق أجواء حالمة ما تلبس أن تُصيب بالإحباط مثل: النصر المؤزر والتمكين وسنعود و.. غيرها.

وهي لغة ناجحة إلى حد كبير وجاذبة للجمهور الذي يعاني من العجز والشعور بالرغبة في امتلاك أي نوع من القوة، حتى لو كانت مجرد قوة في انتصار كلامي، كما أنها تعطي للفرد شعورًا بالنضال ونوع من الفعل المُرضي للذات التي أصبحت الأفكار جزء من كينونتها، ومحاولة الاقتراب منها هي تعدٍّ على حياته. 

ورغم أننا هنا لا نتحدث عن المثقفين تحديدًا، وإنما على الفضاء العام في التفاعل مع الواقع فإنه قد أصابه بعض ما ذكره  الدكتور عبد الإله بلقزيز في كتابه نهاية الداعية الممكن والممتنع في أدوار المثقفين: "يعيش الحقل الثقافي المعاصر بعضًا من المشاهد المرعبة، مقالات التخون المتكاثرة، وفتاوى التكفير المتقاطرة، وبعض من أصابه شيء من ذلك التخوين انزوى باحثًا لنفسه عن توازن يعيد لذاته الاعتبار، والبعض خلد إلى الصمت احتجاجًا على الصراخ الذي يغمر المكان الثقافي، وبعض ثالث تقمص دور التائب ليستدر غفران مؤسسات التخوين".

فضاء النقاش العام اليوم انطلق من داخل الأزمة إلى الأزمة مرة أخرى

فضاء النقاش العام اليوم انطلق من داخل الأزمة إلى الأزمة مرة أخرى، بتكرار ذات النهج الذي وقع فيه العقل العربي إبان سقوط الخلافة والاستعمار من نشوء خطاب تناحري بين دعاة الحفاظ على الهوية والتراث وبين دعاة الانفتاح على الغرب، أما اليوم فنحن لسنا أمام مسارات واضحة من التفكير لها تسلسل هرمي (أي منطلقات واضحة لها تجلياتها وتطبيقاتها)، وإنما لغة تعاني من تناقض وعدم تماسك معرفي تظهر جيدًا في الارتباك في الحكم على الأمور، والإطناب في تحليل ما قد وقع من أحداث بما يتوافق مع لحظة راهنة، ثم تنقلب الأحكام والآراء إن كان الفعل من الخصم.

حالة خلقت معاركها الوهمية لدى عموم المعاصرين لهذه الحقبة مثل ما يتحدث عنه البعض تحت اسم "الفجوة بين النظرية والتطبيق"، رغم أنه لا يوجد معرفة بلا تطبيق، ولا تنظير بلا هدف، بل إن التطبيق هو الذي يخلق السؤال الذي يدفع إلى البحث والتعلم، وتلك الفجوة هي فجوة ناتجة من فهمنا نحن لماهية المعرفة، والسؤال، وللحياة ككل.

وبات أي طرح تنظيري جاد يُقابل بالهجوم العنيف لمجرد أنه علمي النهج أو نقدي يُؤسس لأفكار فعالة، ربما خالية من التعبيرات الحماسية أو شعارات التمرد المشبعة  لرغبة  الانتقام من الواقع، ويُواجه دائمًا بالهجوم وبالسؤال التقليدي "إنه تنظير بلا فعل" رغم الحاجة الشديدة إلى هذا الجهد المعرفي لمواجهة الخلل الذي أظهرته المرحلة الحالية.

 (3)

"الحيرة بدء المعرفة"
* جبران خليل جبران

الحصول على المعرفة بدافع اللجوء من حالة العجز ومحاولة الامتلاء بأي شيء، دون أن يكون دافعها إشكال يحرك الإنسان للبحث أو سؤالٍ ما يُفقدها أثرها، هي معرفة بلا أمل، ومع مرور الوقت ستُفقد الإنسان الرغبة في العمل وتجعله يرتكن إلى حالة من الشعور بالكمال والاستغناء عن الحياة أو العدمية.

هذا اللجوء للمعرفة استهلاكي السمة، يفرغ متعة المعرفة من الشعور الجميل بالجهل، من ذاك الغموض الذي يدفع المرء للتعلم والاطلاع الذي لا نهاية له. "ماذا علينا أن نعرف؟"، قبل "كيف نعرف؟"، والسؤال الأول إجابته هي أساس خلق مجتمعات المعرفة التي تجعل من كل فرد إنسانًا منتجًا إيجابيًا، وليس إنسانًا متكيفًا مع أوضاعه، متعايشًا مع أزماته.

"ماذا علينا أن نعرف؟" سؤال تجرد مطلق لمهمة البحث والمعرفة، ليس بهدف تعويض نقص أو شعور بالقهر أو لمبارزة مع خصم، بل للاهتمام بالمعرفة العلمية والتقنية والاقتراب من إنتاج حلول ومعالجة واقع. إن كان من مخرج فهو الانسلال من المعارك الوهمية، إلى البحث عن السؤال المؤسس لكل حركة في حياته، بما يستطيع فعله وليس كإله بيده تغيير العالم، ولكن كإنسان رزقه الله العقل ليسأل ويتفكر فيفهم ويعمل.

اقرأ/ي أيضًا:

السخرية.. مُتنفّس الخائفين وسلاح المقهورين

درس يعلمنا إياه رجل احتقر ذاته