29-يناير-2018

تظاهرة احتجاجية على مطالبة السيسي الشعب بالتبرع (أ.ب)

إحدى الملاحظات الأساسية اليوم لمتابعي الإعلانات التجارية على أية قناة مصرية، تكمن في الكم الكبير من إعلانات التبرعات لإنشاء المستشفيات. خاصة مستشفيات علاج السرطان بالمجان، ومستشفيات علاج الكبد وعلاج القلب، ومستشفيات علاج الحروق، في غياب تام لدور الدولة الذي يُفترض أنه دور مبادر في حل تلك الأزمات. بل بالعكس باتت هذه الإعلانات تستخدم لتجميل وجه النظام ويتم استثمارها للدعاية للجيش والشرطة في مصر،  تحت شعار "تعاطفك لوحده مش كفاية".

تقول الوقائع أن خدمات كبرى وذات أهمية كبيرة في مصر، كانت كلها نتاج تبرعات من جيوب المصريين وليست من مجهودات الدولة

وتنشط هذه الإعلانات في الإجازات الرسمية الطويلة، مثل الأعياد، أو في المواسم الدينية، إذ تضمن إقبال الناس على التبرع بدافع الصدقة أو الزكاة. لكن أحد الاكتشافات التي ستذهلك لدى معرفتها، هي أن خدمات كبرى وذات أهمية كبيرة في مصر، كانت كلها نتاج تبرعات من جيوب المصريين.  فيما يلي سنوضح لكم بعض الأمثلة على هذه الجهود الأهلية التي بادرت الدولة في النهاية إلى تبنيها، ونسبها إلى نفسها كجزء من مجهودها الحكومي.

اقرأ/ي أيضًا: الاقتصاد العالمي يتعافى من جديد.. لكن ليس لفترة طويلة!

1. الإسعاف المصري.. فكرة فرضتها الكوليرا!

كانت البداية في عام 1902 حين داهمت الكوليرا الإسكندرية، وكانت فكرة الإسعافات لمواجهة حالة الطوارئ التي ألمت بالبلاد وقتها. فقام أحد الشباب الإيطاليين المقيميين بالإسكندرية، وهو بيترو فازاي، بنشر نداء موجه إلي الجنسيات والملل جميعاً من أجل التعاضد والتكاتف لإقامة مؤسسة إسعاف تواجه حالة الطوارئ في الإسكندرية. وكان المقر الأول للإسعاف بالإسكندرية عبارة عن مجموعة من الدكاكين بشارع الكنيسة الأمريكية. بدأت العناصر الأولية للمتطوعين تمارس دورها  تحت اسم "الجمعية الدولية للإسعافات الصحية العاجلة".

وبدأ دخول المصريين في هذه الجمعية بين عامي 1908 و 1909، فانتخب د. سلامة عضواً بمجلس الإدارة عام 1908 ثم الدخاخني بك عام 1909 ثم محمد أيوب بك عام 1910، فأصبح عدد المصريين في مجلس الإدارة ثلاثة أعضاء وبلغ عدد المتطوعين في الجمعية عام 1910 ستة وثلاثين متطوعًا.

كان التحول الحقيقي للإسعاف في مصر من الطابع الأهلي إلى الطابع الحكومي عندما بدأت وزارة الشؤون الاجتماعية في تنظيم عمل الجمعيات عام 1952 

أما التحول الحقيقي للإسعاف من الطابع الأهلي إلى الطابع الحكومي فكان عندما بدأت وزارة الشؤون الاجتماعية في تنظيم عمل الجمعيات عام 1952 بإصدار القانون رقم (4). وأعقب ذلك تعديل أحكام القانون رقم (49) لسنة 1945 بصدور القانون (357) لسنة 1952 الخاص بالجمعيات الخيرية والمؤسسات الاجتماعية، على اعتبار أن الإسعاف كانت تتم إدراته بصفته جمعية أهلية. إلى أن أصبحت الإسعاف في كنف وزارة الصحة رسميًا عام 1966 بصدور القانون رقم (8) بشأن الإسعاف الطبي وبمقتضاه أصبح الإسعاف الطبي من المرافق التي تتولاها الدولة.

2. مشروع القرش لإنقاذ الاقتصاد المصري

يبدو أن ما كان يقوله عبد الفتاح السيسي منذ بداية حكمه من دعوات للتبرع من مثل "صبح على مصر برسالة موبايل" و"مشروع الفكة"، التي عنى بها وقتها الأرقام الصغيرة في حسابات المصريين في البنوك التي تكون بالقرش أو بالجنيه، أنها قصة قديمة في تاريخ التبرعات في مصر. كما أنها تخلو من أي إبداع أو ابتكار في جوهرها. ففي عام 1929 ضربت العالم أزمة اقتصادية كبرى عُرفت في التاريخ باسم الكساد الكبير، أدت هذه الأزمة إلى الانخفاض في أسعار القطن المصري، وهي أزمة تعادل في عنفها الأزمة العقارية الكبرى التي انطلقت من وال ستريت سنة 2008.

اقرأ/ي أيضًا: قوانين ضبط الفتاوى ومكافحة الكراهية.. نحو مجتمع أحادي الرأي في مصر

وفي عام 1931 أخذ كل من الزعيم السياسي والمؤرخ ومؤسس حزب "مصر الفتاة" أحمد حسين، والصحفي فتحي رضوان على عاتقهما مبادرة تسمى " مشروع القرش"، وكان هدف المشروع دعم الصناعة الوطنية داخل البلاد في ظل الأزمة، وقد حظي المشروع باهتمام ودعم الحكومة المصرية وقتها، لكن المشروع تحول لمطية سياسية لحزب مصر الفتاة  لكسب شعبية سياسية في الشارع بزعامة حكومة صدقي باشا على حساب حزب الوفد بزعامة مصطفى باشا النحاس، الذي اتهم المشروع وقتها بأنه ضد الوحدة المصرية المصرية. على الرغم من ذلك، يبدو أن المشروع قام بتجنيد الآلة الإعلامية لصالحه، إذ شارك في حملاته بعض الفنانين والشعراء كأحمد شوقي مثالًا.

ويقال إن هذا المشروع لفت أنظار الحكومة إلى رجال الأعمال المصريين القادرين على دعم الاقتصاد، فاستطاعت مصر أن تستفيد من هذا المشروع في إنشاء بنك التسليف الزراعي، وإنشاء بعض المصانع منها مصنع الطرابيش في العباسية.

3. حكاية مؤسس مستشفى الدمرداش

يقول الكاتب أيمن عثمان في كتابه موسوعة التراث المصري عن مؤسس مستشفى الدمرداش أنه كان من أهل الإسكندرية وتحديدًا من أهل "محطة الرمل الشهيرة"، وهو أحد الشيوخ الذين حظوا بلقب الباشوية، وكان أيضًا شيخًا من شيوخ الطرق الصوفية وهو عبد الرحيم باشا الدمرداش. وقال في اللقاء النادر معه الذي سجلته مجلة "كل شيء والعالم": "إني لم أشعر قط بمثل السرور الذي أشعر به الآن، وقد بلغ بي من شدة الفرح أنني لا أستطيع النوم طويلًا في هذه الليالي، فإني وقعت في حياتي على شيكات كثيرة، لكن ما أحسست يومًا بمثل الغبطة التي خالجت فؤادي وأنا أوقع كتاب هبتي، ومما لا ريب فيه أن هذه إرادة من عند الله .. ده أنا نفسي مش مصدق اللي عملته!".

مثلت التبرعات الأهلية في مصر أحد أهم دعائم قطاع الخدمات، في الإسعاف وبناء مستشفيات الفقراء، وفي دعم الاقتصاد الوطني

وكان الشيخ قد تبرع في 13 آب/أغسطس عام 1928 بمبلغ مئة ألف جنيه مصري لتشييد مسشتفى للفقراء والإنفاق على مصاريفه، شريطة علاج الفقراء بغض النظر عن عقائدهم وجنسياتهم. اللطيف في أمر هذه الحكاية أننا الآن في عام2018، ومستشفى الدمرداش هي من أهم المستشفيات التي تعالج المرضى بأسعار رمزية ويلجأ إليها حتى الآن الفقراء من أهل مصر وحتى الموسرون، لاستعدادها الدائم لاستقبال المرضى.

وهكذا نرى كيف كانت التبرعات الأهلية في مصر أحد أهم دعائم قطاع الخدمات، في الإسعاف وبناء مستشفيات الفقراء، وفي دعم الاقتصاد الوطني، وقد حصرنا لكم فيما سبق أعلاه أمثلة على أبرز هذه التجارب إلا أن القائمة تطول، و هو أمر إن دل على شيء فهو يدل على أن الأنظمة المتعاقبة على حكم مصر اعتمدت دومًا على مبادرات الأهالي في قطاع الخدمات في مصر متنصلة من مسؤولياتها الاجتماعية.

 

اقرأ/ي أيضًا:  

عيد الميلاد القبطي.. صيام واحتفالات وتقاليد راسخة

أطفال الشوارع في مصر.. بين الواقع والسينما