في كتابه "ثمن الحضارة" يبحث الاقتصادي الأمريكي جيفري ساتشس في نصف القرن الماضي لفهم كيف وصلت أمريكا إلى ما وصلت إليه، من تراجع عام. الكتاب يقوم على جزئين، الأول تشخص، والثاني اقتراح علاج. في هذا المقال المترجم عرض للكتاب. 


قدم جيفري ساتشس، نصائحه للكثير من البلدان، بما لا يتسع الوقت لإحصائه. وها هو مبشّر خطط التنمية الاقتصادية يعرض خدماته على الولايات المتحدة الأمريكية من خلال كتابه الجديد.

يبدأ التشخيص في كتاب "ثمن الحضارة" بالحقائق المعروفة كمتوسط الأجور المتدنية، وعدم المساواة، والنتائج الصحية والاجتماعية السيئة

يحمل كتاب "ثمن الحضارة" بين طيات صفحاته فحوى ذلك المسافر العالمي الذي يعود إلى وطنه ليجد بلاده أكثر سوءً مما يتذكر. فمن الواضح، ما لم تُتجاهل بالكامل، أن آراء الرجل لن تكتسب كثيرًا من الزخم في الولايات المتحدة الأمريكية. وإذا ما حدث ذلك، فلن يعدوه خزي أو مهانة، لما لذلك الكتاب من أهمية.

اقرأ/ي أيضًا: هل الفلسفة الغربية عنصرية وكارهة للأجانب؟

عمد جيفري ساتشس في كتاب "ثمن الحضارة" إلى رسم صورةٍ مقلقة للولايات المتحدة الأمريكية، إذ ترك لدى القارئ شعورًا بأن مشاكلها ازدادت تجذرًا بشكلٍ ملفت. بينما كان الإنجاز الثاني في هذا الكتاب، تلك التحليلات الشاملة الجلية التي ذكرها، والتي تخطى فيها حدود الاقتصاد ليتطرق إلى السياسة، وعلم النفس، والفلسفة الأخلاقية. فالمكاسب المنظورة غالبًا ما تفوق خسائر السلطة.

ينقسم كتاب "ثمن الحضارة" إلى جزأين: التشخيص والعلاج. يبدأ التشخيص بالحقائق المعروفة جيدًا - كمتوسط الأجور المتدنية، وتفشي عدم المساواة، والنتائج الصحية والاجتماعية السيئة. ثم يأتي من بعد ذلك تحديد المتسببين في هذه المشاكل. فمن وجهة النظر المتشائمة، فإن (الحكومة هي أساس المشكلة)، لسوء إدارتها في تطبيق مبادئ العولمة، والنفوذ الفاسد الذي تمارسه الشركات الكبرى على سياسة الولايات المتحدة الأمريكية - وهي أمور مقلقة لطالما ترددت في كافة الأوساط. لكنها أصبحت مألوفة بما فيه الكفاية لأنها صحيحة أو دقيقة إلى حدٍ كبير.

لا يُعد جيفري ساتشس ليبراليًا يساريًا تقليديًا. فقد رحب بالعولمة وتحرير التجارة، إلا أنه أصرّ على أنهما يتطلبان سياسات مختلفة كليًا، خاصةً بالنسبة للتعليم ودعم الدخل. كما يرفض الحلول الكينزية للمشاكل الاقتصادية رفضًا تامًا، ويريد استقرار الديَّن الوطني للعديد من الأسباب الاقتصادية  (تكلفة خدمات الدين التي تأتي على حساب الخدمات العامة التي تعاني نقصًا حادًا في التمويل) ، والأخلاقية (عجز الرهن العقاري المُورث للجيل القادم). بينما يعتقد في إمكانية تحويل الإنفاق إلى مسارات أفضل، بل وإمكانية زيادته إذا تسنى اعتماد زيادات ضريبية ملائمة.

يتخلل هذا التشخيص بيانات دولية تسلط الضوء على تدني بعض المجالات في الولايات المتحدة الأمريكية، بدايةً من الحياة الكريمة، مرورًا بالصحة، وانتهاءً بالتعليم. يُلقِي ساتشس أيضًا باللوم على الخلل الأخلاقي لدى الناخبين. إذ يشير إلى أن اللامبالاة، وعدم القدرة على التحكم في النفس، والانسياق وراء الدعاية التلفزيونية، قوضت جميعها قدرة ورغبة الأمريكيين في مراقبة ممثليهم، وانتخاب أفضل المرشحين من ذوي الكفاءة.

اللامبالاة والانسياق وراء الدعاية، قوضت قدرة الأمريكيين في مراقبة ممثليهم، وانتخاب أفضل مرشحين ذوي كفاءة

كثيرًا ما يتردد على مسامعنا، أنه لا يجب أن تصبح أمريكا الوسطى مثل الدول الاسكندنافية - وعلى الرغم من إظهار جيفري ساتشس أن حجج واشنطن قد تُحدث خلطًا لدى الرأي العام، والذي يتغاضى بشكلٍ كبير عن الضرائب المرتفعة المستحقة على الأغنياء أكثر مما قد يتصور أي شخص. إلا أن هذا القدر قد لا يكفي لدعم خطة علاجه.

اقرأ/ي أيضًا: أليف شفق تكتب رواية ستُنشر بعد 100 عام في "مكتبة المستقبل"

الجزء الثاني من كتاب "ثمن الحضارة" أقل تشويقًا من الجزء الأول. إذ تتضمن قائمة الإصلاح مجموعةً من الأفكار العملية، مثل تقليص الإنفاق على الدفاع لمستويات فترة منتصف تسعينيات القرن الماضي، بالإضافة إلى بعض الأفكار التي تكاد تكون مستحيلة، كتغيير قواعد الانتخابات الأمريكية لتُجرى بالتمثيل النسبي.

يعد جيفري ساتشس ظاهرة في حد ذاته - فقد حظيت بمتابعته كطالب سابق وزميل. لقد كان لفترةٍ طويلة أكثر من مجرد شخص أكاديمي، وثمة وضع خاص تسبب في جعله أقل من شخص أكاديمي. لا يُعد ذلك نقدًا لكتاب وُجه لعموم القراء، واحتوى على بيانات في بعض الأحيان قد لا ترقى إلى الموثوقية العلمية. ولكن من الطبيعي أن نتوقع أكثر من ذلك من الذين يتطلعون إليه للحصول على المشورة.

قبل كل شيء، فإن جيفري ساتشس ما هو إلا مخطط اقتصادي. ويعتقد أن الخبراء يستطيعون تحقيق أداء اقتصادي أفضل، وأن تلك الأهداف الموضوعة قد تعمل بكفاءة. فقد ساهم ساتشس بالفعل في وضع أهداف الألفية الإنمائية، والتي تعد محورًا للجهود الدولية للتنمية.

يريد جيفري ساتشس أن يفعل الشيء نفسه للولايات المتحدة الأمريكية. فالرسالة الأساسية لكتاب "ثمن الحضارة"، أن الحكومة تستطيع أن عمل الكثير، إذ تستطيع الحكومة وحدها أن تحل أكبر مشاكلنا. ولكن يجب على واشنطن في البداية أن تُحسِن بشكل كامل قدراتها على اتخاذ القرارات طويلة الأجل، ومتابعة تنفيذها. ويشير جيفري ساتشس إلى إمكانية تحقق ذلك فقط إذا استطاع سكان الولايات المتحدة من فعل الأمر نفسه.

حماسة جيفري ساتشس نحو التخطيط لا تخلو من المشاكل. فهو يسخر من وجود أهداف غامضة أو فوضوية. كما أن هناك ازدراء مزعج للساسة. فقد كتب متحدثًا عن التغير المناخي: "هل يمكن للإنسان أن يتصور إمكانية التعامل مع مشكلة أقل في الحجم من قبل كونغرس يعمل وفق دورة انتخابية كل عامين؟".

وعلى الرغم من ذلك، فإن القول بأن الحكومة والأفراد على حد السواء يعانون من عدم القدرة على الالتزام بمشروعاتٍ طويلة الأجل، أمر مقنع. ففي إحدى الفعاليات التي أُقيمت في جامعة هارفارد قبل عقد من الزمان، ألقى سياسي بارز كلمةً على شرف جيفري ساتشس. قال فيها: "إن جيف، يصيب أحيانًا ويُخطئ أحيانًا أخرى، إلا أنه لا يقع في الشك أبدًا". ولايزال ذلك صحيحًا حتى الآن. ولكنه عندما يكون على صواب، فإنه يصيب عين الحقيقة بالفعل.

 

اقرأ/ي أيضًا:

رواية "بينوكيو".. فانتازيا إيطالية

لماذا منحت اليونسكو سياتل لقب "مدينة الأدب"؟