02-ديسمبر-2021

مارك بلوخ وكتابه (ألترا صوت)

لا تزال الوثيقة التي دوّنها المؤرخ الفرنسي مارك بلوخ (1886 – 1944) حول أسباب هزيمة الفرنسيين أمام الألمان بداية الحرب العالمية الثانية، تحظى بأهمية كبيرة بين الوثائق والمؤلفات التي أرّخت لها وأضاءت على أسبابها، على الرغم من مرور نحو سبعة عقودٍ ونصف على ظهورها لأول مرة.

قاتل الفرنسيون في حربهم ضد الألمان عام 1940 بالطرق والأفكار والاستراتيجيات التي قاتلوا بها خلال الحرب العالمية الأولى

وتعود أهمية هذه الوثيقة التي نقلتها عومرية سلطاني إلى اللغة العربية، وصدرت منتصف العام الجاري عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، تحت عنوان "الهزيمة الغريبة: شهادة نظّمت في عام 1940"، إلى أن ما تضمنته من معلومات وشرح مستفيض حول أسباب الهزيمة، هي في الأصل حصيلة ما شاهده مارك بلوخ في ميدان المعركة، ودوائر صنع القرار التي اطلع على بعض ما دار فيها بحكم وظيفته كضابط في الجيش الفرنسي خلال الحرب.

اقرأ/ي أيضًا: كبرى المآسي التحريرية

يحمّل مارك بلوخ قيادة أركان الجيش الفرنسي مسؤولية هزيمة 1940، التي يرى أنها نتيجة طبيعية لانفراد مجموعة من الضباط الذين اتسموا بالتعصب والتصلّب وضيق الأفق، بإدارة المعركة التي بيّنت له حجم الانقسام القائم بين مكونات الجيش الفرنسي، وأظهرت مقدار الانفصام بين المقاتلين وضباط قيادة الأركان من حيث الرؤية والتصورات وطريقة قراءة المعركة والتعامل مع تطوراتها.

تصلّب كبار ضباط الجيش الفرنسي في أفكارهم وإقصائهم لأفكار الآخرين وتصوراتهم، حال دون فهمهم للمعركة التي يرى بلوخ أن انتصار الألمان فيها كان فكريًا بالدرجة الأولى، فعلى العكس منهم تمامًا، خاض الفرنسيون الحرب لا بمقاييس الأمس فحسب بل حتى بما قبل الأمس أيضًا، بينما خاضها الألمان بمقاييس عصرهم، ما يعني أن المعركة دارت آنذاك بين خصمين ينتميان إلى عصرين مختلفين: "باختصار نحن قمنا بتجديد الحروب التي ألفناها في مستعمراتنا، حيث الرمح يواجه البندقية، أما في هذه المرة فكنا نحن الأكثر تخلفًا" (ص 47).

يقول مارك بلوخ، نقلًا عن أحد أصدقائه، إن الاستراتيجية التي اتبعها الجيش الفرنسي في تلك المعركة، هي استراتيجية "على بركة الله" القائمة على الارتجال والتخبط. ويضرب هنا من سرعة انسحاب القوات الفرنسية أمام الألمان، دون التفكير في إعادة التمركز وبناء خطوط دفاعية جديدة، مثالًا على هذه الاستراتيجية التي ظلت معتمدة حتى بعد إدراك الفرنسيين لضرورة اعتماد استراتيجية جديدة تأخذ بعين الاعتبار الفوارق الهائلة بينهم وبين الألمان، الذين تفوقوا عليهم لا في نوعية المعدات العسكرية فقط، بل في الإعداد والتخطيط والحصول على المعلومات الاستخباراتية.

في مقابل التفوق الألماني الهائل، يقول بلوخ إن الجيش الفرنسي فشل حتى في الحفاظ على مواقع كان الدفاع عنها سهلًا للغاية بحكم موقعها الجغرافي: "كيف يمكن تفسير عدم تمكننا من الدفاع عن سهل شديد الانحدار يقع على ضفاف نهر كبير ويفترض أن يكون الدفاع عنه سهلًا للغاية؟ في هذا الصدد لم أتمكن حتى الآن من فك طلاسم هذا الحدث" (ص 51).

بالإضافة إلى ذلك، فشل الفرنسيون أيضًا في معرفة مواقع تمركز الألمان بسبب سوء تنظيم الاستخبارات، التي لم تتمكن من رصد تحركاتهم بسبب سرعتهم ومهارتهم في تقدير المسافات والتعامل معها، على النقيض تمامًا من الفرنسيين الذين فشلوا لا في تقدير المسافات فقط، بل حتى في التحرك فيما بينها بسرعة، ولهذا السبب وجدوا أنفسهم مضطرين في الكثير من الأحيان إلى إجراء تعديلاتٍ عاجلة على نقاط ومواقع إنزال فرقهم العسكرية، بعد اكتشافهم بأن الألمان سبقوهم إليها.

والملفت في ما ذكره مارك بلوخ، أن معظم معلوماتهم حول تحركات القوات الألمانية وصلتهم إما عن طريق جنود صادفوا قوات ألمانية أثناء انسحابهم من مواقعهم باتجاه مواقع أخرى ظنوا أنها بعيدة عن جبهات القتال، أو عبر مجموعات عسكرية اكتشفت أن النقاط التي تريد منها قيادة الأركان التمركز فيها، وقعت تحت سيطرة الألمان بشكلٍ مفاجئ. يقول المؤرخ الفرنسي: "إن بعض الإخفاقات التي أخشى أن إنكارها غير ممكن، كان مصدرها بطء شديد في التفكير والتوقع" (ص 57). ويرى أن تأخر الفرنسيين عن الألمان، هو ما يفسِّر وقوع أغلب معاركهما بشكلٍ مفاجئ بل ومباغت من حيث الزمان والمكان.

اعتمد الألمان في مهاجمة الفرنسيين على عنصر المباغتة والكثير من الخطط المعدة مسبقًا من باب التحسب. في المقابل، خاض الفرنسيون حربهم معتمدين على مبادئ الجمود في العمل، وقاتلوا في عام 1940 بالطرق والأفكار والاستراتيجيات التي قاتلوا بها في الحرب العالمية الأولى، على العكس من الألمان الذين قاتلوا بأساليب عصرهم.

يوجه مارك بلوخ مجمل نقده في شهادته إلى قيادة الأركان وهيئاتها، التي يقول إنها بدت خلال الحرب أقرب إلى مؤسسات تجارية أكثر منها عسكرية، وهذا ما يفسِّر بحسب رأيه الفوضى التي سادت في مختلف مكاتبها عند انطلاق العمليات العسكرية، بالإضافة إلى الفوضى التي اتسمت بها اتصالاتها مع البريطانيين الذين يرى أن تحالف الفرنسين معهم كان فاشلًا ومعقدًا، وينطوي على ضغائن كثيرة وكراهية غير ظاهرة، الأمر الذي انعكس سلبًا على سير العمليات العسكرية التي اتسمت بالاضطراب بسبب القصور القائم في الاتصالات بين الطرفين.

يرى بلوخ أن هزيمة 1940 هي نتيجة طبيعية لانفراد مجموعة من الضباط الذين اتسموا بالتعصب والتصلّب وضيق الأفق بإدارة المعركة

وفي سياق نقده لقيادة الأركان، يقول بلوخ إنها فشلت حتى في جمع المعلومات الاستخباراتية، بل ووفرت للمقاتلين على الجبهات معلومات غامضة وخاطئة وتصل متأخرة أيضًا، بسبب مرورها على مختلف مؤسسات الجيش ومكاتبه وهيئاته وكبار ضباطه، قبل الوصول إلى الجبهات، ذلك أن الجيش الفرنسي لم يكن جيشًا واحدًا، وإنما مناطق نفوذ تتقاسمها القيادة العامة للأركان، ووزارة الدفاع.

اقرأ/ي أيضًا: أفكار من الأرشيف

ينتقد بلوخ أيضًا جهل الفرنسيين بأساليب الجيش الألماني وعقيدته العسكرية، التي يرى أنه كان بإمكانهم دراستها أثناء حملة الأخير على بولندا. ويخلص إلى أن الحرب التي خاضتها بلاده ضد الألمان، هي حربٌ: "يقودها أشخاص مسنون، أو أصحاب نظريات فُهمت بصورة عكسية، وأدت إلى أخطاء تاريخية. هذه حرب اخترقتها رائحة العفن المنبعثة من المدرسة الحربية، ومن مكاتب هيئات الأركان في زمن السلم، ومن الثكنات" (ص 124).

 

اقرأ/ي أيضًا:

حوار| خالد حسيني: الدولة لم تتمكن من تقديم أي شيء للشعب

التراث الشعبي والتعتيم