04-سبتمبر-2023
بينما تدعو الحدود إلى الانفتاح، فإن الجدران علامة على الانغلاق (الترا صوت)

بينما تدعو الحدود إلى الانفتاح، فإن الجدران علامة على الانغلاق (الترا صوت)

يقارن ريجيس دوبري الحدود ببشرة الإنسان وجلده. فمثلما أن "الجلد فاصل بين الجسد والعالم الخارجي، فهو بعيد من أن يكون ستارة عازلة بُعدَ الحدود من أن تكون جدارًا. الجدار يحول دون المرور، أما الحدود فتنظمه. والقول عن حدود ما، بأنها مصفاة، هو أيضًا منحها ما تستحق: فالحدود هي هنا من أجل التصفية والتنقية. فالمنظومة الحيوية هي منظومة من التبادلات، ديناميكية وحرارية، مع البيئة بأنواعها: الأرضية منها والبحرية والمجتمعية. تسمح المسام للجلد بالتنفس، مثلها مثل المرافئ والجزر والجسور والأنهار".

للحدود إذًا، مثلما للبشرة، مسام. وما يميز الحدود عن الجدران، هو أن لها مسام، هو انفتاحها. هذا ما كان أشار إليه الفيلسوف إيمانويل كانط من قبل. فهو كذلك يميز الحدود عن السدود والجدران. فبينما تدعو الحدود إلى الانفتاح، فإن الجدران علامة على الانغلاق. الحدود لا تفصل ولا تفرّق، وإنما تميّز الأطراف لتربط فيما بينها. أما الجدران فتُبنى ضد الآخر ورغم أنفه، بل إنها قد تبنى ضد الذات، فتقف ضد كل تواصل.

كان من المفترض، في عالم غدا قرية صغيرة تقلّصت أبعادها، وتوحّدت أنماط عيشها، وامّحت الفواصل بين أجزائها، أن تلغى الحدود، ويعمّ الوصل والاندماج

كان من المفترض، في عالم غدا قرية صغيرة تقلّصت أبعادها، وتوحّدت أنماط عيشها، وامّحت الفواصل بين أجزائها، أن تلغى الحدود، ويعمّ الوصل والاندماج. إلا أن ما يميّز العوْلمة بالضبط هو هاته المفارقة: ففي الوقت الذي يسودها التنميط وتطغى فيها ثقافة واحدة موحِّدة تسعى لأن تلغي الفروق، وتمحو الفواصل، وتقضي على الخصوصيات فتلغي الحدود، تحاول الثقافات المحلية أن تُبْدِي نوعًا من الارتداد فتنهج منحى معاكسا. لا عجب إذاً أن نلحظ، في العالم المعَوْلم صعودًا ملحوظًا للهويات الثقافية المتعددة، وللنعرات الطائفية التي تسعى إلى إثبات ذات جماعية دينية أو لغوية أو إثنية.

نتيجة لذلك سيتخذ مفهوم الحدود معنى مزدوجًا، إن لم نقل إنه سيتّسم بنوع من الالتباس. فمن جهة يبدو كما لو أنّه فقَد كل معنى، أو، على الأقل، لم تعد له أهمية تُذكر، ومن جهة أخرى يظهر التعلّق به مقاومة لاكتساح العولمة، وتجلّيًا للتشبّث بالمقوّمات التي تحدّد الخصوصيات. من جهة يُنظر إلى الحدود، لا على أنها ما يحدّد، وإنما على أنها ما "يحُدّ من"، وبالتالي على أنها ما ينبغي تجاوزه: ففي عالم غدا مسرحًا للتجمّعات والتكتّلات، وفي الوقت ذاته، عالم ما تفتأ تظهر فيه "جمعيات بلا حدود" ومجتمعات مدنيّة تحاول بالضبط أن تتخطى الحدود وتخترق الحواجز لتنجز ما لم تستطع الحكومات أن تنجزه، في عالم هذا حاله، لا بد وأن يُنظر الى الحدود على أنها "حدّ مِن"، حدّ من التكافل والتواصل والاندماج، وبالتالي على أنها حواجز وعوائق و"شرور". لكن، من وجهة أخرى، تبدو الحدود، على العكس من ذلك، معْبرًا لا بد منه للنفاذ إلى الخارج، إنها ما يحدّد الذات ويميّزها، فيفصلها عن آخرها ويربطها به في الوقت ذاته ويفتحها عليه.

هذا المعنى الملتبس يتأكد لدينا نفسيًّا كلّما حاولنا عبور الحدود. الحدود هي النقطة التي نشعر عندها أنّنا نغادر "بيتنا" و"وطننا" لننفتح على الخارج، فيأخذنا قلق ملازم بأننا معرضون في أيّ لحظة للضياع، ولفقدان ما يثبت هويتنا، ويشدّنا إلى موطن نسكنه ونسكن إليه، فنستشعر نوعًا من الارتباك، وفقدان الثّقة في النفس، والتشكّك في سلامة أوراق التعريف، أو على الأقل في احتمال وشيك لضياعها، فينتابنا تخوّف ملازم من اقتراف خطأ من الأخطاء. كل محاولة لعبور الحدود، هي محنة للهوية وامتحان لها، واختبار لمدى رضا الآخر عنا وقابليته لأن يتقبّلنا ويستقبلنا. ربّما لا يحسّ الإنسان بأنّ له هوية إلا عندما يعبر حدودًا. إنّه لا يشعر أنه هو هو إلاّ عندما يكون بين بين.

على هذا النحو فرغم ما يميّز الحدود من لبس، ورغم ما قد تنطوي عليه من معان سلبية، فهي وحدها الكفيلة بأن تزيد من وعينا بـ"خصوصيتنا" وتميّز جسمنا وبشرة جسدنا. ذلك أن العالم من غير حدود لن يكون إلا صحراء تتشابه حبات رملها، يفقد فيها كل شيء تفرّده، ويغيب فيها الاختلاف لتسود التسوية المسطّحة، والتّطابق الموهوم، والتّنميط المعمّم، والهويات العائمة.