28-يونيو-2016

من الفيلم

لقد اعتبر الناس بأن هدم جدار برلين يعد من المستحيلات، لم نكن نعرف أن الأمر كان يحتاج لمطرقة وإزميل فقط، بهذه الكلمات أنهى مايكل مور (1954) مشاهد فيلمه الوثائقي "Where to Invade Next" كإشارة إلى أن حلمه الأمريكي لم ينقض، وأن هناك ما يمكن النظر في إعادة ترميمه ابتداء من منظومة التعليم وليس انتهاء بالكف عن الانغماس في الحروب.

ينشغل مايكل مور في "أين تغزو المرة القادمة" بسؤال الحروب الكثيرة الخاسرة، والأثر السلبي لها على استدراج معاداة الشعوب

لا يخرج الفيلم عن منهج مايكل مور الإخراجي، والذي تُسجل له زيادة اهتمام الجمهور السينمائي بهكذا نوع من الأفلام الوثائقية، والتي تختص بالشأن الاجتماعي السياسي، إلا أنه هذه المرة، وعلى الرغم من مقولات بعض المحللين عن عدم تطرقه للجانب السياسي، واهتمامه بالفروقات التنويرية الحقوقية بين أوروبا وأمريكا، إلا أن الفيلم ومور لم يهملا الجانب السياسي، إذ إن الفيلم يُفتتح بسؤال الحروب الكثيرة الخاسرة، والأثر السلبي لها على استدراج معاداة الشعوب، أو على الأقل تبذير الطاقات والأموال في حروب عسكرية كان يجب أن تكون حروبًا ضد الانهيارات في الداخل الأمريكي، في جوانب لا تقل أهمية عن رغبة الانتصار على أعداء خارجيين.

اقرأ/ي أيضًا: إيليا سليمان.. كيف تصل العالمية بثلاثة أفلام فقط

يوجه مايكل مور من خلال المشهد الأول للفيلم رسالة واضحة للسياسيين والعسكريين بأنه يمتلك الحل لما يشعرون به من قلة الحيلة والخسارات المتلاحقة عالميًا، وأنه وحيدًا سيبدأ عملياته الخاصة لغزو العالم ثقافيًا، وفي مشهد يمكن أن يعد كوميديًا بامتياز يحمل مور العلم الأمريكي ثم يستقل طائرة لنجده في إيطاليا، في مقابلة شخصية مع زوجين إيطاليين داخل بيتهما متسائلًا عن سر السعادة البادية عليهما، ليحصل على أجوبة كان أهمها بأن الموظف الإيطالي قادر على الحصول سنويًا على إجازة مدفوعة الأجر مجموعها ثمانية أسابيع، الأمر الذي ينزل على رأس مور كالصاعقة لأن هكذا إجازة ليست مطروحة أبدًا في أمريكا، أضف إلى ذلك إجازة أمومة مدفوعة الأجر تبلغ خمسة شهور بالتمام والكمال، ثم إنه لا يكتفي بمعلومة الزوجين الإيطاليين بل يرتب للقاء مدراء شركة تختص بالألبسة وهي شركة معروفة بنجاحاتها، ومباشرة يستفسر مور عن تأثير الكم الكبير من الإجازات على إنتاجية الشركة، ليتسلم جوابًا لم يكن ليتوقعه بأن الإدارة حريصة على منح هذه الحقوق لموظفيها بما يضمن سعادتهم.

المقاربة السينمائية المتبناة لدى مور تقوم على جمع ضفتي الأطلسي على طاولة المخرج في شكل يلامس مبادئ المحاكمة الذاتية

الغزو الثاني يقوده مور إلى قرية فرنسية، وداخل مطعم تظهر فيه درجة عالية من المهارة في صنع أطباق فريدة من نوعها يبدأ التصوير، ليكتشف المشاهد بأن كل هذه الأعمال المطبخية الاحترافية إنما تحدث داخل مقصف مدرسي، لم يقتصر الأمر على تقديم طعام صحي للطلاب، وإنما اعتبار فترة الطعام حصة مدرسية كاملة، فيها يتعلم الطلاب كيف يأكلون بطريقة سليمة، وكيف يحرصون على تقديم الطعام لبعضهم البعض، ثم إن رئيس الطهاة يجتمع في بداية كل شهر مع المسؤولين لاختيار قائمة الطعام على تنوعها، لم يهمل مور حسه الكوميدي عندما ترك تعليقًا بأن مدرسة تعتبر من أفقر المدارس الفرنسية تقدم لطلابها غذاء خاصًا بالملوك.

ثم إلى فنلندا، الأولى عالميًا في مجال التعليم، كان الغزو الثالث، لقد كان محيرًا بالنسبة للأمريكي مور كيف صعدت هذه الدولة بعد أن كانت تتشارك وأمريكا أدنى المستويات تعليميًا، الجواب المذهل لوزيرة تعليم فنلندا كان بأنهم تخلصوا من الفروض المنزلية، وبأن الأطفال يجب أن يتمتعوا بحياتهم خارج المدرسة، أن يتعرفوا إلى الحياة على نطاق أوسع من المنهاج المدرسي الذي يلاحق طلاب الدول الأخرى إلى بيوتهم. 

المعلمون في فنلندا يتحدثون عن ضرورة أن يكون الفن، الموسيقى، والشعر جزءًا مهمًا من التعليم، بينما "مور" يتحدث كيف أن عددًا ليس بالقليل من المدراس الأمريكية قد تخلى عن المرور بتلك المواضيع، انطلاقًا من تساؤلات أمريكا عما الذي سيستفيده الطالب من الاطّلاع على الشعر مثلًا؟ كيف سيضمن له تعلم الفن وظيفة ملائمة؟ 

اقرأ/ي أيضًا: أليس" على طرف الجحيم"

معلومات مور هذه كان لها الأثر السيئ على طاقم المعلمين وعلى وزيرة التربية الفنلندية. قبل الخروج من فنلندا. يؤكد الفيلم بأن قانون التعليم لديهم قد ضمن المساواة في التعليم بين الأغنياء والفقراء، حيث إن مدرسة الحي لا تختلف عن مدرسة المدينة، وليس لأحد المستثمرين الحق في بناء مدرسة ووضع رسوم على الطلاب المنتسبين إليها، لهذا فالأغنياء معنيون في استمرار المدارس المدعومة حكوميًا ضمن كفاءتها العالية، لأنها مدارس أبنائهم وليس من بديل يتفوق عليها تعليميًا.

من سلوفينيا والتأكيد على فكرة التعليم الجامعي المجاني، ينتقل مور إلى ألمانيا إذ يختبر فيها تجربة أكثر تفردًا من تخفيض ساعات العمل على أهميتها بالطبع، وتحكم العمال بتعيين نسبة من أصحاب القرار داخل مؤسساتهم بما يضمن حقوقهم الوظيفية وسعادتهم. 

اقرأ/ي أيضًا: الدراما السورية منشغلة بالتطرف

الاستفادة الأهم في هذا البلد الخارج حديثًا من التقسيم والحصار العالمي، بأن الألمان يعلّمون طلابهم ومواطنيهم التاريخ النازي بصيغة الرفض التام لأخطائه، ثم إنهم لا يكتفون بهذا، بل يتركون فوق الأرصفة نقوشًا تحمل أسماء عائلات تعرضت للاضطهاد، النقوش أداة للتعبير عن الشعور الجماعي بالذنب، بالإضافة إلى لافتات معلقة في الطرق العامة تشير إلى قوانين عنصرية ألفها العهد النازي. 

الفن وعيش الحياة خارج جدران المؤسسة التعليمية ومناهجها يشكلان وصفة علاج لمآسي التعليم 

يطرح الفيلم سؤالًا تهكميًا عن محتوى اللافتات التي يمكن لأمريكا تعليقها في الطرقات كنوع من الاعتذار للهنود مثلًا، للسود، وللنساء اللواتي مُنعن من التصويت مع جموع الشعب الأمريكي، لنتخيل جميعًا قدرة المجتمعات على الاعتراف بالذنب وأثر هذا على المضي قدمًا دون أسئلة عالقة في الحلق، أسئلة يمكن لها أن تثير الشعور بالتفرقة والقلق الدائمين.

بالتأكيد لم تكن ألمانيا هي آخر دولة يغزوها مور، وبالطبع لن ينهي الفيلم الوثائقي قبل أن تجتمع لديه دروس كثيرة من البرتغال، النرويج، تونس، وآيسلندا، دروس في التنوير وسلطة القانون وتثقيف الشعوب لما فيه فائدتهم هم لا فائدة قلة من المتحكمين. 

من بين من التقاهم مور من جامله بحقيقة أن هذه القيم والقوانين التي يندهش لتحققها لديهم إنما هي قوانين مستوحاة من دساتير أمريكا ذاتها، لكن تلك الدول عملت على تطبيقها لا الاكتفاء بالتكلم عن المساواة، حقوق المرأة، السجناء، والعمال وكثيرين غيرهم، في المقابل كان مور واقعيًا حين تحدث عن وجود ما تعاني منه تلك الدول التي غزاها بداعي التعلم، لكنه على حد قوله لا يريد الحشائش إنما يريد أن يجني الزهور. 

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

"القنّاص الأمريكي".. قنّاص الخدع

غطفان غنوم.. متوجًا في "هوليوود للأفلام المستقلة"