أدت ثورة الخميني عام 1979 في إيران إلى قيام نظام حكم جديد يستخدم النصوص الفقهية في فرض العديد من التنظيمات المجتمعية الجديدة، ويتعامل معها باعتبارها تنظيمات مقدسة ولا يجب أن تُمسّ.

ومنذ تلك الثورة بدأت السينما الإيرانية في الاعتماد الكثيف على الأسلوبية الرمزية البسيطة التي يسهل على المشاهد تفكيكها وتفسير معانيها، من أجل توجيه إشارات ورسائل ناقدة لمختلف الجهات الدينية والسياسية التي شكّلت الأساس في منظومة الحكم في إيران منذ ذلك الحين.

بعد الثورة راحت السينما الإيرانية تعتمد الرمزية البسيطة التي يسهل على المشاهد تفكيكها وتفسير معانيها، من أجل توجيه إشارات ورسائل ناقدة لمختلف الجهات الدينية والسياسية التي شكّلت الأساس في منظومة الحكم في إيران

فيلم "Holy Spider"، أو عنكبوت مقدّس، هو واحد من تلك الأفلام التي اعتمد فيها المخرج الإيراني الدنماركي علي عباسي على تلك الرمزية البسيطة في توجيه إشارات ورسائل ناقدة للنظام الإيراني، وما فيه من تنظيمات مجتمعية متعلّقة بالنساء بشكل خاصّ، وكيفية النظرة إليهنّ والتعاطي معهنّ.

قصة الفيلم هي قصة مستوحاة من أحداث حقيقية لقاتل متسلسل يُدعى سعيد حناي، وهو عامل بناء قوي البنية، وجندي سابق خدم بتفان لسنوات في الحرب الإيرانية- العراقية في الثمانينيات، ارتكب عدة جرائم قتل في مدينة مشهد الإيرانية ما بين عامي 2000 و2001، حيثُ كانت أهدافه جميعهنّ من النساء، فهذا القاتل قام بين هذين العامين باستهداف 16 امرأة من بائعات الهوى اللواتي كنّ يُقدّمنَ خدماتهنّ في شوارع المدينة، وكان يقوم بالتقاطهنّ وقتلهنّ عبر خنقهنّ بحجابهنّ.

يأتي الفيلم ليسلّط الضوء على هذا القاتل السفاح الذي يظلّ لفترة طويلة نسبيًا يمارس جرائمه في قتل النساء من بائعات الهوى دون أن يكون هناك سعي جدي من السلطات الإيرانية لتتبعه والقبض عليه، حتى تلكَ اللحظة التي تجيء فيها إحدى الصحفيات الجريئات إلى المدينة، وتتولى متابعة القضية، فتقوم بملاحقة السفاح وتتبّع أثره، عبر تتبّع بائعات الهوى المسحوقات اللواتي كنّ يبعن أجسادهنّ من أجل إعالة أسرهنّ الفقيرة، وتنجح أخيرًا في الاستدلال عليه وتَقود السلطات المختصة لاعتقاله بعد مغامرة خطيرة تخوضها وتتنكّر فيها في هيئة بائعة هوى، وترافقه إلى منزله، وتكون عرضة للقتل على يديه.

تُشكّل لحظة القبض على المجرم السفاح وتقديمه للمحاكمة لحظة تتكشّف فيها عورات المجتمع الإيراني، الذي عمل النظام على خلقه وتشكيل منظومته المفاهيمية طوال عقود، فبعد أن تتحوّل قضيته إلى قضية رأي عام، تثور ثائرة فئة كبيرة في هذا المجتمع وتعترض على محاكمة هذا السفاح، وتقوم بحراك احتجاجي تطالب فيه بتبرئته، وعلى إثر هذا الحراك تُعامَل أسرة السفاح باعتبارها أسرة بطل عظيم يستحقّ التقدير وليس الإدانة.

ومن المشاهد اللافتة في الفيلم هو مشهد تقوم فيه المحكمة بتوجيه تهمة الجنون والقصور العقلي للقاتل من أجل تخفيف الحكم عليه، وتطلب منه تأكيد هذا الاتهام أو نفيه، فما يكون منه إلا أن ينطق بهذه الكلمات: "باسم الرب والشهداء والقديسين إن كانت المستندات قذ ذكرت ذلك، فلدي ما أضيفه، نعم أنا مجنون، مجنون بالإمام الثامن، مجنون بالإمام رضا، مجنون باقتلاع جذور الفساد.. إذا كان وفاء المرء بواجبه يعني أن يكون مجنونًا فأنا مجنون..".

وكلمات القاتل السابقة تأتي لتشرح بشكل أو بآخر عنوان الفيلم، فالقاتل في الفيلم هو كالعنكبوت الذي ينصب شباكه لبائعات الهوى بقصد اصطيادهنّ وتطهير المجتمع من دنسهنّ، فهو هنا عنكبوت يستخدم خيوط النصوص الفقهية المقدسّة من أجل إضفاء الشرعية على جرائمه، وإعطائها مبررات أخلاقية ودينية تحت دعاوى الواجب الأخلاقي والضرورة الدينية وغيرها.

فالعنكبوت المقدّس في الفيلم يأتي كدلالة أكيدة على ما أورده المفكّر هادي العلوي من أنّ "المحرِّك للتاريخ ومقدساته ليس العقيدة والقداسة بل الصراع السياسي والاجتماعي. وهكذا في كلّ تاريخ مقدس أو مؤدلج يتعرض مأثور مؤسسه للانتهاك تحت ضغط هذا الصراع: قاعدة عامة في جميع الأمم والحضارات".

يُظهِر فيلم "Holy Spider" بأن  الصراع السياسي والاجتماعي الذي تولّد مع نجاح الثورة الإسلامية عمل على إنتاج مؤسسات ومنظومات مجتمعية ودينية لها مفاهيمها الخاصة عن القداسة

فكلام العلوي السابق يأتي ليوضّح بأن الصراع السياسي والاجتماعي هو الأساس المحرّك لسيرورة التاريخ، وبالتالي فإنّه حتى أكثر المؤسسات والمنظومات المجتمعية والدينية قداسة تتأثّر وتكون خاضعة لنتائج هذا الصراع والأطراف المهيْمِنة فيه.

فالفيلم يُظهِر بأنّ الصراع السياسي والاجتماعي الذي تولّد مع نجاح ثورة الخميني، عمل على إنتاج مؤسسات ومنظومات مجتمعية ودينية لها مفاهيمها الخاصة عن القداسة التي يحقّ معها نزع حياة المرأة إذا سقط عنها شرفها، وذلك في مخالفة واضحة لمقاصد الشريعة الكبرى والتي يقع في مقدمتها وجوب حفظ النفس الإنسانية مهما كانت وكيفما كانت.

وكأنّ العنكبوت المقدّس في الفيلم الذي يُنصّب نفسه كوصي على أخلاق المجتمع ويَستخدم النصوص الفقهية المقدسة ليبرّر قتل وانتزاع أرواح وأنفس نساء بريئات، هو نفسه عنكبوت السلطة الذي ظلّ لفترات طويلة يستخدم شرطة الأخلاق لفرض قيود معينة على النساء في المجال العام، ولإقامة الحدّ عليهنّ في حال مخالفتهنّ لأوامره، بالخنق والتضييق المجازي حينًا، والفعلي في أحيان أخرى، والشابة مهسا أميني أكبر مثال.