28-أغسطس-2021

من الفيلم (Netflix)

لا يسعى فيلم "تشرنوبل: الهاوية" (نتفلكس، 2021) للمخرج الروسي دانيلا كازلوفسكي، إلى تقديم رواية جديدة حول انفجار المفاعل الرابع في "محطة تشرنوبل للطاقة النووية" في أوكرانيا، أواخر نيسان/ أبريل عام 1986. بل ولا يبدو أن صنّاعه مهتمون أساسًا بتقديمه على هذا الأساس، الذي يأخذ بعين الاعتبار الإضاءة على ما هو مهملٌ ومغفلٌ ومجهولٌ من تفاصيل قد تقدِّم فهمًا جديدًا للحادثة. أو تلفت الانتباه، على الأقل، إلى الندوب النفسية والجسدية الهائلة التي خلّفتها في حياة ضحاياها.

اختزل فيلم "تشرنوبل: الهاوية" انفجار المفاعل وتداعياته إلى مجرد حادثةٍ عادية، بينما يُفترض به أن يتناولها بوصفها كارثة غير مألوفة

"تشرنوبل: الهاوية" فيلمٌ يراد منه، بالدرجة الأولى، ترويج الرواية السوفييتية حول أسباب انفجار المفاعل، وتدعيمها في مواجهة الروايات الغربية التي تحمّل النظام السوفييتي مسؤولية ما حدث. هذه هي ببساطة غاية الفيلم. عليها يقوم، ولأجلها صُنع، وبسببها قُدِّم الانفجار بطريقةٍ اختُزل فيها إلى مجرد حادثةٍ عادية، بينما هو في الأصل كارثة أفسدت حياة آلاف البشر الذين وجدوا أنفسهم، فجأة، في مواجهة واقعٍ عصيٍ على الفهم والإدراك.

اقرأ/ي أيضًا: أشرطة نيلسن: اعترافات مرعبة لشرطي تحوّل إلى قاتل متسلسل للمثليين

يروي الفيلم قصة رجل الإطفاء "أليكسي"، الذي يلتقي بعشيقته السابقة بعد نحو عشر سنواتٍ على فراقهما. وبعد اللقاء مباشرةً، يقرر إعادة إحياء هذه العلاقة من جديد، لا سيما بعد اكتشافه أن له ابنًا منها يبلغ من العمر قرابة عشر سنوات، بل ويحمل اسمه أيضًا. حينها، يتقدّم بطلبٍ لنقله من برابيت، حيث يعمل رجل إطفاءٍ في محطة تشرنوبل، إلى كييف التي قرر العيش فيها برفقة عشيقته "ليوشا" وابنهما. ولكن الانفجار سيحول دون اجتماع العائلة التي سعى أليكسي إلى لم شملها، حيث سيضطر إلى البقاء في المدينة المنكوبة للقيام بواجباته كإطفائي. 

قبل الانتقال إلى استعراض الأحداث التي تبعت الانفجار، وتأثيرها على أليكسي (يؤدي دوره كازلوفسكي نفسه) وعشيقته ليوشا (أوكسانا أكينشينا)، لا بد من لفت الانتباه إلى الغرابة التي تلف اللقاء الذي جمعهما في مصادفة غريبة تستدعي تساؤلاتٍ عديدة يمكن اختزالها في سؤالٍ من قبيل: لمَ لمْ يلتقي الطرفان من قبل رغم وجودهما في مدينة واحدة منذ أكثر من عشر سنوات؟

بغض النظر عن الإجابة والتفسيرات التي تقدّمها، إلا أنها، في كل الأحوال، لن تجعل من لقاء أليكسي وليوشا مقنعًا، ولن تستطيع نفي حقيقة أن لقاؤهما مصطنعٌ وسطحي إلى حدٍ بعيد. وأكثر من ذلك، لا يتعدى اللقاء وما يترتب عليه، أكثر من مجرد مدخلٍ شديد الابتذال لتناول الانفجار بالطريقة التي تخدم غاية الفيلم، الأمر الذي يفسِّر غياب التماهي والتوازن بين القصة - قصة أليكسي وليوشا - وانفجار المفاعل من جهة، وتداخلهما ببعضهما بشكلٍ فوضويٍ ومضطرب من جهةٍ أخرى.

في العودة إلى انفجار المفاعل وما ترتب عليه، بوسعنا القول إن الأخير قد نقل قصة الحب التي تجمع أليكسي وليوشا إلى مرحلةٍ جديدة، محورها ابنهما الذي تلقّى نسبة عالية من الإشعاعات بسبب وجوده قرب مبنى المفاعل لحظة انفجاره. هذا ما سيعرفه أليكسي بعد وقتٍ قصير من رفضه التطوع في تصريف المياه التي تجمعت أسفل المفاعل، لمنع وقوع انفجار حراري. غير أنه تراجع عن رفضه بعد معرفته بأحوال ابنه، الذي اشترط على الحكومة إرساله للعلاج في سويسرا مقابل المشاركة في العملية.

قبول أليكسي الغوص في مياهٍ مشعة تتجاوز درجة حرارتها 56 درجة، ليس عمله البطولي الأول، ولا هي تضحيته الوحيدة أيضًا، فالفيلم بمجمله قائمٌ على بطولاته وتضحياته العديدة، إن كان في محيط المفاعل أثناء محاولة رجال الإطفاء إخماد الحريق، أو أسفله حيث يسعى أليكسي وغيره من المتطوعين لفتح صمامات تصريف المياه. 

وفي كلتا الحالتين، ليست تضحيات أليكسي إلا جزء من سرديات البطولة السوفييتية التي تتنكر لكل ما يتعارض معها. وهذه السرديات تحديدًا، هي أساس الرواية الرسمية التي تركز على ثنائية البطولة والتضحية، على حساب مآسي الناس وحقهم في معرفة ماذا حدث، ولمَ حدث، ومن يتحمل مسؤوليته، بعيدًا عن البروباغندا ونظريات المؤامرة.

هذا بالضبط كل ما يقدّمه فيلم "تشرنوبل: الهاوية"، الذي اختزل الانفجار وتداعياته إلى مجرد حادثة عادية، بينما يُفترض به أن يتناوله بما هو كارثة محملة بذعرٍ لا يشبه الخوف بمعناه المألوف، الذي لا يرقى إلى مستوى حدثٍ خلّف آلاف المصابين بالأمراض السرطانية، والتخلّف العقلي، والاضطرابات النفسية والعصبية، والتغيّرات الجينية المفاجئة والمفجعة. ناهيك عن ضحاياه الذين سقطوا، إما لحظة وقوعه أو بعده بأيام قليلة، بسبب الإشعاعات التي أحرقت أجسادهم وأتلفت خلاياها. 

"تشرنوبل: الهاوية" فيلمٌ يراد منه، بالدرجة الأولى، ترويج الرواية السوفييتية حول أسباب الانفجار وتدعيمها في مواجهة الروايات الغربية

وفي اختزاله الانفجار إلى مجرد حادثة عادية، يكون الفيلم قد تنكّر لمعاناة الآلاف ممن طالتهم الإشعاعات أو حتى آثارها النفسية، وذلك لا لصالح الإضاءة على بطولات رجال الإطفاء، وتضحيات أولئك الذين تطوعوا للغوص في مياهٍ مشبعة بالإشعاعات من أجل تصريفها، ومنع حدوث انفجارٍ حراري تفوق قوته التدميرية ما سبقه؛ بل من أجل القول بأن السلطات السوفييتية ليست مسؤولة عما حدث، وإنما موظفي المحطة والعاملين فيها.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "The Mauritanian".. سيرة الإنسان المستباح

لهذا السبب انصرف الفيلم عن طرح أي أسئلةٍ تبحث في أسباب الحادثة، واكتفى بتقديم حكاية سطحية تقول إن الانفجار حدث، ولكنه انتهى أيضًا. بجملةٍ أخرى، يمكن القول إن "تشرنوبل: الهاوية" تناول الكارثة من أعلى دون الاقتراب منها بما يكفي للوقوف على حقيقتها، حتى وإن دارت أحداثه في محيط المفاعل وأسفله.

 

اقرأ/ي أيضًا:

فيلم "The United States vs. Billie Holiday".. قصة مشحونة لكن من دون بوصلة

فيلم "Judas and the Black Messiah".. قصة القائد الكاريزماتي يرويها مُخبر