23-يناير-2016

جوزيف عيد/ا.ف.ب/Getty

خمس سنوات مرت على اندلاع الأزمة في سوريا. خمس سنوات رأى فيها الشعب السوري شتى أنواع المعاناة، من قتل وتهجير واعتقال، حيث بات القتل مشهدًا يوميًا وشبه اعتيادي بالنسبة للكثيرين. والهجرة مستمرة طيلة تلك السنوات التي خلت وقد تستمر لسنوات أُخرى. أما الاعتقالات فهي احتمال مفتوح منذ أربعين عامًا، إلا أنه ازداد في ظل اندلاع الثورة. حين تتحدث مع أي مواطن سوري فاعلم أنه إما فار أو لاجئ أو فقد فردًا من أفراد عائلته، أو فقد مدينته بالكامل. وهذا ما يبدو وبشكلٍ ملحوظ على أرض الواقع وفي العالم الافتراضي، فإن جميع مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، يصنعون صفحاتهم من أجل التواصل مع المجتمع ومشاركة أخبارهم ويومياتهم، وهذا ما جعل من فيسبوك السوريين، دفترًا لمذكرات الحرب.

 ذاق الجميع المذاق نفسه، والمعاناة واحدة، غير أن القصص تختلف

"الحمدلله وصلنا ع ألمانيا بعد عناء طويل وركد بين الأشجار ولعبة الحرامي والشرطة والهروب من الكلاب وأخييييرا وصلنا ألمااااااااااانيااااااااا"

نزلت هذه الكلمات مع عدة صور لشوارع ألمانيا على حائط فيس بوك للاجئ سوري وصل لتوه إلى هناك. عمر كساب لاجئ سوري في ألمانيا، يرى أن الفيس بوك هو النافذة الوحيدة التي يطل منها على بلده سوريا، ويطمئن من خلالها على أهله وجيرانه وأصدقائه، ويشاركهم أخباره ويومياته في بلاد المنفى... "لما وصلت على ألمانيا أول شي فرحت كتير، بس مع الوقت حسيت انو العيشة هنيك (يقصد سوريا) رغم الحرب والدمار أشرف بكتير من هون، وهيدا السبب الرئيسي يلي جعل وسائل التواصل الاجتماعي تكون وسيلة يومية للتعبير عن حالتنا النفسية والمعنوية وتدوين كل صغيرة وكبيرة بحياتنا على حيطان الفيس بوك".

وفاء والدة المعتقل أحمد بقدونس الذي اعتقلته قوات النظام السوري في منتصف العام 2012 تكتب له يوميًا على فيسبوك

أيضًا عارف، وهو كاتب وباحث سوري مواليد 1943 يضع صورة لصديقه المحامي حبيب عيسى، الذي خرج من المعتقل بعد سنوات من مكوثه هناك وذلك بتهمة قول الحق على حد تعبيره ويكتب فوقها: "الصورة ذات اللحية المبجلة هي لولي الحق الصديق المحامي حبيب عيسى، رفيق الزنزانة يوم خروجه من السجن، بعد أربع سنوات ونصف قضاها، مع زملائنا في ربيع دمشق، ثمنًا لقول الحق". ثم بعد أيام يرى أنه لا يستطيع الوصول إليه ليهنئه، فيبعث له هذه الرسالة عبر فيس بوك:

"مرحبًا ياحبيب! شكرًا لك على هذه الصورة التي لم أعرفها لوهلة، لأني لم أفرح برؤيتك بهذه الطلعة المباركة، الأجدر بالخلافة من أي دعية آخر، إنما كخليفة في مجال حقوق الإنسان والديمقراطية والقومية التقدمية، وليس كقاطع للرؤوس كفار زنيم. لقد خدعوك، كما خدعوا اتحاد المحامين العرب، ولعبوا على إصرارك أن لا تخرج من السجن إلى البيت (بعد أربع سنوات وأربعة أشهر قضيتها وزملاؤنا الآخرون، في انفراديات، كما جميعنا العشرة)، إلا وأنا معكم، لكنهم، وكانوا مضطرين إلى إطلاق سراحنا، بعد اشتراط اتحاد المحامين العرب أن لايعقدوا مؤتمرهم في دمشق إلا بعد تحريرنا (وكان موعد افتتاح المؤتمر في اليوم التالي) فقد دفعوك قسرًا للخروج من زنزانتك الانفرادية مع الإيمان بأني سأصل إلى بيتي بعيد وصولكم بدقائق، وهذا ما أعلنته أنت لوسائل الإعلام بعد وصولك إلى بيتك، لكنهم حنثوا بالقسم، كعادتهم وكديدنهم، وبقيت وحدي بعدكم لأقضي في الانفرادية، حسب الحكم القراقوشي الذي كانوا ينطقون به، كعادتهم، بدون محاكمة، أكثر من خمس سنوات ونصف، وإن كانوا اضطروا إلى إخراجي بعد نحو سنتين وثمانية أشهر، أي بعد سبع سنوات سجن انفرادي، تحت ضغط من حملات خارجية ضخمة متصاعدة، كانت قد أشرفت على الوصول إلى مجلس الأمن، وتحت ضغط التردي الفظيع في أحوالي الصحية التي وصلت شفا الموت مرات عديدة، ولكن القدر شاء أن أبقى شاهدًا على التردي العام الذي تسارع منذ خروجي (في اليوم الذهبي، كما يسمونه، 8-8-2008).

هذا التردي الذي قضيت معكم السنوات اللاحقة ونحن نحذر في محاضرات وندوات علمية متتالية بأنه سيقود، إذا ما استمر، إلى الانفجار، وكلنا أمل بأننا ربما نستطيع، بالإصلاح الجذري المستحق، تعديل المسار الكارثي وحماية سوريا من النكبة. ولكن عديمي العقل والضمير جعلوا هذا التحذير واحدة من التهم التي (استحققت!) عليها حكمًا بالسجن عشر سنوات. لأنهم (بعقلهم وضميرهم المتهالكين أو المزورين المطمورين تحت جبال من الفساد الطائش المبهج المعبود) اعتبروه تحريضًا ودعوة إلى الحرب الأهلية، كم تمنينا، وعبرنا عن ذلك عندما وضعونا معًا تحت التسجيل والتنصت السري لسبعة أشهر، كأول حالة من نوعها في تاريخ السجون في العالم، وقبل توزيعنا إلى انفراديات، أن نوقظ العقول التي علاها صدأ الاستبداد، ونحيي الضمائر التي طمسها عفن الفساد، فنفدي سوريا ونحميها من السقوط في الكارثة التي سيقت إليها بإصرار وبتعاون الأضداد..."

أما وفاء، والدة المعتقل أحمد بقدونس الذي اعتقلته قوات النظام في منتصف العام 2012، وذلك لأنه شارك في حملات الإغاثة لمساعدة المتضررين جراء القصف في مدينته دمشق، فقد أنشأت صفحتها على الفيسبوك فقط من أجله، وباتت تدون له بين الحين والآخر "بوست" يعبر عن حالتها في غيابه. يقتصر البوست أحيانًا على الدعاء والتوسل إلى الله لإنقاذ ابنها من المعتقل، وأحيانًا تكتب له الشعر، أما عندما يطفح الكيل وتشعر بجرعة زائدة من الفراغ والوحدة في غياب أحمد تكتب بوست إما تدعو فيه على سجانيه، أو تشتمهم أحيانًا. والجدير ذكره أنها في كل مرة تكتب شيئا لابنها تضع تحت البوست رقمًا، لتدون بهذا أعداد الحالات التي كتبتها على حائطها في فيسبوك، وقد وصل رقم آخر بوست نشرته على صفحتها إلى 1297 بوست، منذ اعتقاله في منتصف العام 2012 إلى الآن...

وهذا حال البقية، الجميع ذاقو المذاق نفسه، والمعاناة واحدة، غير أن القصص تختلف، وتتراوح بين الموجعة البشعة وبين الحلوة المعبرة، الكثير الكثير من الصفحات تغص بالأخبار والذكريات، لأناس أصبحوا مواطنين في العالم الافتراضي، لاجئين في عالم الواقع.

اقرأ/ي أيضًا:
مضايا.. الأسد بلا مكياج
فيسبوك.. جحيم السياسيين المغاربة