- عندك سرطان!

قالها بعفويّة وبساطة، كأنّه يتحدّث عن وعكة بسيطة ستمرّ مرورَ الكرام، ألا يعرف أنّ هذه الكلمة من الممنوع أصلًا ذكرها أسوة بالأعضاء التناسليّة؟ ألم يستطع أن يبدأ بمقدّمات وتوْريات، مثل أن يقول عندك ورم.. ورم خبيث، أو عندك من هذاك المرض؟

المهمّ أنّني مصاب بالسّرطان بمرحلة متقدّمة جدًا، سرطان الكبد، يبدأ هناك صغيرًا لكنّ فراغ البطن المفتوح يفسح له مكانًا كي يكبر ويكبر، دون أي ضغوطات أو أعراض جانبية، حتى يلتهم أعضاءك الداخليّة ويكون متأخرًّا جدًا على تدخّلات جراحيّة للقضاء عليه .

يمكنك فقط استعمال مواد كيماويّة كاوية، تستطيع في أفضل الأحوال إطالة عمرك بعدّة أشهر، لتصبح الأدوية مصدر عذابك الأساسي بدل المرض .

لديك ستّة أشهر تفارق بها عمرك .

معضلتي الكبرى ليست السرطان ذاته، أو حتّى الرّغبة في عدم علاجه، بل إخبار أبي عن الموضوع، ليس الأمر كما تظنّون، ليست خوفًا على مشاعره، بل توجّسًا من كل عظاته التي سيعيدها علي للمرّة المليون، فأبي كما لا تعلمون هو "خبير في زراعة القبور"، يجلس في البيت دون عمل منذ فترة طويلة، يعتاش على مخصّصات التأمين وبعض التبرعات من مصادر غير واضحة، يقرأ القرآن، يصلّي خمس مرات في المسجد، يحاول دومًا تصيّد الفرص في إقامة الآذان مما يؤلّب عليه المؤذّن الّذي يوبّخه خوفًا على أن تستغني الدّولة عن خدماته - ومعاشه - إذا لم يقم الآذان بنفسه .

يأخذ نفسًا عميقًا ويسترسل في كلامه، حيث يستطيع أن يتحدّث ساعات متواصلة دون توقف إذا لم يقم أحد بمقاطعته أو الإشارة له بالتوقّف، أذكر يوم أخذني للتعرّف على زوجتي ابنة أصدقائه ذات الحسب والنسب والدين.

هو جالس يخطب، يتحدّث ويتحدّث، واضح أنّه يغصب نفسه على الامتناع عن حبّه الأول والأخير: "عذاب القبور"، فالمقام لا يسمح بهذا الموضوع .

وبينما يتحدّث دخلت هي تحمل القهوة ...

أنفٌ مستقيم، بارز قليلًا، جلبابٌ بلونٍ فرائحيّ يختلف عن الألوان العشرة التّي أعرفها، منديلٌ محكم الإغلاق حول الوجه، يغطي الشّعر والرّقبة.

طبقةٌ كثيفة جدًّا من المكياج بلونٍ فاتح جدًا لا يلائم بشرة لون كفّيها بتاتًا، يكسو وجهها ويمنع تعابير العضلات المخفية عن الظّهور، فتعطي ملامح جادّة وحادّة، عقلي الباطن يلحّ عليّ أن هذا الوجه مألوف، لقد رأيته في مكان ما، أين وكيف مرّت عليه هذه الملامح، لم أعرف في حينها .

كانت تلك الإشارة أن يتوقف والدي عن "خطبة الجّمعة" ويعود إلى الموضوع الذي جاء من أجله .

نحن بنات طارق.. إن تقبلوا نعانق.. أو تدبروا نفارق.

تزوّجتها، ولم تكن دماء، لكن الأمر كان أكبر من أن أدعه يضعضعني، أو يغيّر مسار حياتي فتركته يحفر حفرته في ساحة دماغي الخلفية .

حياة زوجيّة تقليديّة، علاقة فاترة رغم الحرارة النسبيّة في غرفة النوم، التي لا تتوافق مع البرودة خارجها، كان الوضع بالمجمل مقبولًا، تأخّر الحمل طويلًا، ولم يأت ابننا الوحيد إلّا بعد علاجات خصوبة مُضنية .

ثم جاء السرطان..

بعْد مراحل الإنكار، ثمّ الغَضب، ثمّ المساومة، ثمّ الاكتئاب الّتي استغرقتني أربعة أشهر، كانت نقطة التحول مجرّد جنازة أخرى لقريب لنا .

حدست بالأمر عندما رأيت عينيّ والدي تبرقان وهو يلبس ملابس الخروج، إنّه جاهز، وقف على باب القبر المزروع حديثًا يهندسُهُ ويحثّ الشباب على تنفيذ الطقوس بدقّة وحرفيّة، ثمّ بدأ يخطب، فكرة واحدة تلمع في رأسي، لن يحصل على حصّته من زراعة قبري ونثْرِ خطبته حوله.. وقتها فقط وجدت استرحت .

جاء التقبّل ليترك لي شهرين أعيش حياتي بهما كيفما أريد، شهر واحد بالحقيقة سيكفيني تمامًا لا أحتاج إلى أكثر من ذلك، وكان علاقتي مع الله هي الثّمن، تخلّصت من ذلك تمامًا، شُفيت من تلك العلاقة، ومن الحساب العسير الذي كنت سأقدّمه لو بقِيَتْ تلك العلاقة موجودة .

توقّفت عن كل طقوس التّخدير، التي تهدف كلّها أن تنجرف باتجاه التيّار الضخم من الجّنون الجماعيّ، وتحصل بالمقابل على حصّتك من السّكينة .

رغم أهمّية حاجة الإنسان الامتناع عمّا يستطيع، كي يتعّلم لجم رغباته ويجعلها تعمل عنده بدل إن يعمل عندها، إلا أنّ أحد أهم قراراتي للشهرين الأخيرين، هو دراسة الموبقات والكبائر وبناء قائمة رغبات منها كلها وتحقيقها بشكل ممنهج .

بدأ الأمر بزيارة لأمستردام، زيارة خاطفة للشبابيك الحمر، تلتها سهرة في كوفي شوب تلتها زيارة لكازينو قريب، لأضع إشارة v بجانب أوّل ثلاثة أسطر في القائمة.

"أعلم أن الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر، وقد كثر اختلاف الناس فيها، فقال قائلون: لا صغيرة ولا كبيرة، بل كل مخالفة لله فهى كبيرة، وهذا ضعيف، إذ قال تعالى: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلًا كريمًا (النساء: 31). وقال تعالى: الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم".

فقال ابن مسعود: هن أربع . وقال ابن عمر: هن سبع . وقال عبد الله بن عمرو: هن تسع. وكان ابن عباس إذا بلغه قول ابن عمر الكبائر سبع يقول: هن إلى سبعين أقرب منها إلى سبع".

تقول الوصيّة الأولى "لا تقتل"، وفي القرآن مكتوبٌ "لا تقتل النفس التي حرّم الله".

هذه كانت كبيرتي الأخيرة، سافرت إلى الهند سرقت قليلًا من مدّخرات الوالد، وصلت إلى وكالة لحرق الجثث دفعت مقدّمًا، وأعطيتهم ساعة تحميل الجثة وعنوان غرفتي بالفندق .

جلست في الغرفة، أبقيت الباب مواربًا، وشربت كأسي الأخيرة ممزوجة ببعض الويسكي الفاخر، وجلست أنتظر.

لم يأت أيّ نفق وضوء الغرفة البارد لم يتزحزح، لكن فكرة أخيرة تسللت إلى رأسي واكتسحته... أين رأيتها قبل؟ تشبه من يا ترى؟

آه نعم تذكرت الآن... إنها تشبه دراكولا!

 

اقرأ/ي أيضًا:

صورة بانورامية لحياة السيدة "هـ"

إلى امرأة نعرفها جميعًا