28-يناير-2024
تحرم "إسرائيل" سكان قطاع غزة من الماء والطعام منذ أكثر من شهرين (GETTTY)

(Getty) سياسات التجويع القسرية هي ما تستخدمه إسرائيل حاليًا

انتشرت منذ بداية الحرب الإسرائيلية على غزة صور كثيرة لخبز ملقىً على الأرض ومغمّس بالدمّ، وكان تحتها تعليقات توضّح بأنّ القتل وسيلان الدمّ هو الثمن الذي يدفعه الغزيين جراء سعيهم للحصول على رغيف الخبز، حيثُ يتمّ استهدافهم من قبل طائرات الاحتلال وهم يقفون في طوابير الحصول على الخبز أو المساعدات الإنسانية.

هذه الصور وغيرها من الفيديوهات التوثيقية للحظات استهداف الغزيين تروي بيوغرافيا الجوع بشكل مغاير لما ابتدعته إميلي نوثومب في روايتها الشهيرة التي حاولت من خلالها رمسنة مفهوم الجوع، وابتكار تعريف جديد له يُخرجه من حقيقته كحاجة فيسيولوجية إلى الطعام، ويدفع به إلى أُطر أكثر اتساعًا وشمولية، ليُصبح تعبيرًا عن الفراغ الأسر الذي يصيب الكائن الحيّ في أي جانب من جوانبه، ويجعله يتوق إلى ملء وتعبئة هذا الفراغ.

تأتي تلك الصور والفيديوهات، فتنحو منحىً معاكسًا لما فعلته نوثومب، وتردّ الجوع في أذهاننا إلى تعريفاته البدائية باعتباره حاجة إلى الطعام وبكونه "إحساسًا بالحاجة إلى غذاء يعتاض به الإنسان مما خسر من القوى، وهو ناشئ عن فراغ المعدة من الأطعمة التي تمكنها من القيام بوظيفتها الطبيعية، فهو من هذه الوجهة دافع غريزي أكثر منه شعور حقيقي".

يصف هوميرس الجوع بأنّه: "لا شيء أغلب منه ولا أقهر"، ويُورِد أنطون الجميّل في كتابه "الجوع والمجاعات" ما قالته كتب الفسيولوجيا عن درجاته المؤدية إلى الموت، فيقول: "هذا الشعور لذيذ في بداية الحال، وهو ما أطلقوا عليه اسم "شهية" أو "قابلية"  فإذا طال يصبح مزعجًا، ثم يخيل أن الجوع قد هدأ بعد فوات الوقت المعتاد لتناول الطعام، لكنه لا يلبث أن يعود ثانية أشد قوة وتأثيرًا وتضورًا، فيصبح مؤلمًا، فيجف اللسان، وتبرد الأطراف، وتبطؤ حركة القلب، ويضعف النبض، ويتمدد الصدر بعناء، وتهبط حرارة الجلد، فيسرع إلى الِمعَى الانكماش واليبس، ويتطرق إلى الجسم الوهن والضعف، وإذا استمرت هذه الحال، يصيب الإنسان نوع من الهذيان التهيجي، فيفقد الإدراك، وتؤول به الحال إلى أعمال ترتجف منها الطبيعة البشرية، كما أنها تدلّ على وهن تلك الطبيعة، فيلتهم المصاب ما ينفر منه عادة كالحشرات والورق، بل إنه يسف التراب سفًا، بل يأكل الإنسان أخاه الإنسان".

سياسات التجويع القسرية هي ما تستخدمه إسرائيل حاليًا في حربها على شعب غزة، فهي تمنع وصول المساعدات الإنسانية إلى شمال القطاع بشكل كامل

من يقرأ الكلام السابق، يستحضر في رأسه تلك المقولة التي طالما قيلت له لتطمئنه عن كونه إنسان يعيش في جماعة بشرية تغلب عليها صفات التضامنية، ولا يُمكن للإنسان الفرد فيها أن يموت من الجوع، لكنْ ماذا لو خضعت تلك الجماعة البشرية -التي تغلب عليها صفات التضامنية- لسياسات تجويع قسرية أفقدت جميع أعضاءها قدرتهم على توفير الغذاء الكافي؟

قد يظنّ البعض بأنّ خضوع جماعة بشرية ما لسياسات تجويع قسرية هو شيء لا يحدث إلا لظروف طبيعية كارثية كما يحدث في أفلام الناجين من حوادث تحطّم الطائرات، الذين يبقون لفترات طويلة محاصرين في مناطق معزولة يُجبرون فيها –بدافع من غريزة البقاء- على أكل والتهام كلّ شيء من أجل ضمان بقائهم على قيد الحياة.

لكنّ الحقيقة أنّ سياسات التجويع القسرية هي ما تستخدمه إسرائيل حاليًا في حربها على شعب غزة، فهيَ تمنع وصول المساعدات الإنسانية إلى شمال القطاع بشكل كامل، وحتى المساعدات التي تصل إلى مدن الجنوب لا تكفي لتلبية الاحتياجات الغذائية للأعداد الكبيرة من السكان والنازحين الذين استقرّت بهم الحال هناك، ويُقدّر عددهم بمليون ونصف نازح.

تُحدّد المادة الثانية من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها جريمة الإبادة باعتبارها مجموعة الأفعال المرتكبة بقصد التدمير الكلي والجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، ويقع في مقدمة هذه الأفعال "إخضاع الجماعة، عمدًا، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليًا أو جزئيًا".

هذه الأفعال هي ما تقوم به إسرائيل تمامًا منذ بداية حربها على غزة، عبر استخدامها التجويع كسياسة للإبادة، وإصرارها على تحديد حجم المساعدات الإنسانية الغذائية التي تصل إلى مدن الجنوب، ومنعها الكامل لوصول المساعدات إلى الشمال، حتى وصل الأمر بالناس هناك إلى اضطرارهم لأكل علف الحيوانات وتحضير الخبز منه.

في قرارات محكمة العدل الدولية حول دعوى جنوب إفريقيا بخصوص ضلوع إسرائيل في ارتكاب جريمة إبادة جماعية في غزة، لم تأمر المحكمة إسرائيل بالوقف الفوري لإطلاق النار وإنهاء أعمالها العسكرية والقتالية هناك. ورغمَ تشديدها على مسألة وجوب إدخال المساعدات الإنسانية إلى جميع أجزاء القطاع، إلا أنّ إسرائيل قد تجد وسيلة أو أكثر للتحايل في تقريرها النهائي المطالبة برفعه أمام المحكمة. ولربّما ما غاب عن أذهان القضاة في المحكمة أنّ سياسات الإبادة في غزة -وعلى رأسها التجويع- لن تتوقّف وتنتهي إلا بتوقّف وانتهاء المقتلة.