09-سبتمبر-2016

أحد باعة السواطير في شوارع الجزائر

فاجأنا الصيدلي عبد السميع، 31 عامًا، بأنه يختفي تمامًا عن الشارع والعيون، عشرة أيام قبل عيد الأضحى، يسمّيه الجزائريون "العيد الكبير"، والسبب ليس مرضًا أو عطلة، بل هو الخوف المزمن من رؤية أدوات الذبح والسلخ والتقطيع، وهو المشهد المهيمن على اليوميات الجزائرية، أسبوعين قبل الأضحى. "يعود الأمر إلى طفولتي المبكرة، حتى أنني أمنع أن تكون آلة حادّة في متناول نظري داخل البيت".

في الجزائر، وقبل عيد الأضحى، في الأسواق وعلى الأرصفة، ينصب شباب بطالون طاولاتٍ تضمّ لوازم ذبح الأضحية ونفخها وسلخها وتقطيعها وشوائها

في الأسواق وعلى الأرصفة وعند مداخل العمارات، ينصب شباب بطالون طاولاتٍ تضمّ لوازم ذبح الأضحية ونفخها وسلخها وتقطيعها وشوائها، من سواطيرَ وخناجرَ وألواح تقطيع وآلات نفخ وأعواد شواء وأعواد تنقية الفم من اللحم العالق وحبال لتعليق وربط الأضحية وشوّايات وفحم. يعلّق أحد الظرفاء: "ماذا لو كانت هذه الأدوات متوفرة بهذه الكثافة والسهولة، زمن العنف والإرهاب في التسعينيات، هل كنا سنحتاج أكثر من يوم لإفناء بعضنا؟".

اقرأ/ي أيضًا: "عشوائيات بيروت"... وجه المدينة الخفي

أكثر من تقلقهم هذه التجارة غير القانونية، أصحاب المحالّ المعتمدة رسميًا لبيعها، "لكننا لا نملك سلطة لمنعها، فهي وظيفة الحكومة"، يصرّح أحد أصحاب هذه المحال، "هل يُعقل أن يُسمح لغيرنا، ممّن لا يملكون تصريحًا بذلك أو سجّلًا تجاريًا، ببيعها في أكثر المناسبات إقبالا عليها؟ كيف سنعوّض ما دفعناه من ضرائب على مدار العام؟".

يتفهم حمزة معلوم، 24 عامًا، أحد الشباب الذين يملكون طاولة لبيع هذه الأدوات، في مدينة بودواو، 38 كيلومترًا شرقًا، انشغال هؤلاء، ويدعوهم في الوقت نفسه إلى مراعاة ظروف البطالة، التي تنخر يوميات الآلاف من الشباب. "لتجتهد الحكومة أكثر في القضاء على البطالة، وسوف يمتهن كل واحد منا المهنة التي تناسبه في إطار قانوني واضح". يضيف: "قبل ذلك، على الجميع أن يشكرونا، لأننا فضّلنا أن نمارس التجارة، بغض النظر عن قانونيتها، عوض أن نمارس العنف وبيع المخدرات".

يُدخلنا حمزة إلى عالمه، فيكشف أن أعمار باعة لوازم الأضاحي تتراوح ما بين العشرين والأربعين. "أي فئة الشباب الذين بلا وظائف، فإن قلّ العمر عن العشرين، اضطرّ صاحبُه إلى أن يكون مساعدًا، مقابل 1000 دينار لليوم، 10 دولارات أمريكية، وكثيرًا ما يقصدني آباء وأمهات، علهم يجدون فرصة لأطفالهم، خاصة أن هذه التجارة الموسمية تتزامن مع الدخول المدرسي، حيث تكون الحاجة إلى مداخيلَ إضافيةٍ أكثر إلحاحًا".

اقرأ/ي أيضًا: الخيمة تزاحم المباني في موريتانيا

يحتاج الشاب الراغب في نصب طاولة من هذا النوع، بحسب محدّثنا، إلى رأس مال أوّلي يقدّر بثلاثين مليون سنتين، 3000 دولار أمريكي، "وهو مبلغ كبير على شاب بطال، لذلك تكثر الشراكات بين الشباب، وقد يلجأ البعض إلى تدبّر المبلغ من شخص ميسور الحال، مقابل اقتسام الأرباح، بعد إعادة رأس المال".

وتشتهر مناطقُ معينة بكونها تمثّل أسواقًا تبيع هذه الأغراض بالجملة، مثل ضاحية الحميز بالجزائر العاصمة، ومدينة العلمة بمحافظة سطيف، 300 كيلومتر شرقًا، "أسعار هذه الأسواق متدنية، لأنها تعرض سلعًا صينية، وهو ما يضمن لنا هامشًا من الربح". سألنا حمزة عن مصير ما يتبقى لديه من سلعة بعد فوات فرصة العيد، حيث تقلّ الحاجة إليها، فقال: "أخزّنها إلى الموسم القادم، وإن وجدت من يشتريها دفعة واحدة، فسأبيعها له حتى أسترجع رأس مالي، لاستثماره في تجارات موسمية أخرى، مثل الأدوات المدرسية للدخول المدرسي، والمفرقعات للمولد النبوي، والحلويات لشهر رمضان، والألعاب لعيد الفطر، والكراسي والشمسيات لموسم الاصطياف".

الشيوخ والنساء أكثر من يُقبل على هذه الطاولات، بحسب ملاحظتنا على مدار ساعة مكثناها مع محدثنا حمزة معلوم، والسبب يعود، بحسب إحدى المعلّمات، إلى أن الشيخ والمرأة في الجزائر، باتا أكثرَ انتباهًا إلى ما ينقص البيت من أغراض، وأعمقَ حرصًا على توفيرها، "في ظل انشغال الكهول بالعمل، واستقالة معنوية للشاب من الانخراط في هموم البيت. كم شابًّا جزائريًا ينتبه إلى افتقاد البيت إلى إبرة خياطة مثلًا، أو ولّاعة للمطبخ أو احتراق مصباح ما؟".

سألنا حمزة عن سبب كثرة التفاتاته إلى مختلف الجهات، متوقعين أن ذلك بسبب الخوف من سارق محتمل، فنبّهنا إلى معطى كان غائبًا عنا. "يحدث في أية لحظة أن تحدث مناوشة بين شخصين، فيعمد أحدُهما أو كلاهما إلى الهجوم على الطاولة لأخذ آلة حادة، مما هو معروض عليها، قصد تصفية الحساب بها، حيث أجد نفسي متورّطًا في مشكلة أنا في غنى عنها".

هنا، سألناه عن طريقة تعامل رجال الأمن مع أمثاله، فقال: "ما إن نصبنا الطاولة في اليوم الأوّل، حتى داهمتنا الشرطة وأمرتنا بالمغادرة، وهو ما دفعنا إلى الذهاب إلى المركز، ولقاء رئيسه، فقال لنا إنه يتفهم كوننا بطالين بحاجة إلى مال، وهو يحيّينا على نزوعنا إلى التجارة عوض السرقات والعنف، غير أنه يطالبنا بجرعة أكبر من الوعي، حتى لا تحدث مشاكلُ بسبب ما نبيعه".

بنبرة روائية عميقة، حدّثنا حمزة عن الأحاسيس التي انتابته، وهو يتدبّر شاحنة صغيرة لجلب سلعته من مدينة العلمة، وجملة المخاوف التي رافقته طيلة الطريق ذهابًا وإيابًا، ذلك أن السلعة، التي تدبّر ثمنها بشق النفس، ستكون محلّ مصادرة غير قابلة للنقاش، في حالة توقيفه في حاجز أمني، "غير أن الضربة أصابتني من الشاحنة نفسها، لقد أصيبت بعطل، وهو ما اضطرني إلى إصلاحها بمبلغ، سوف لن أتمكن من استرجاعه إلا إذا بعت السلعة كلها". وكانت العبارة التي ختم بها مؤثرة ودالّة جدًّا: "لا يقبل أن يبيع الخناجرَ والسواطيرَ بهذه الطريقة، إلا المذبوح بالفقر والإحساس بالمسؤولية تجاه أسرته".

اقرأ/ي أيضًا:

رافاييلا سيلفا: من مدينة الإله إلى ذهب ريو 2016

"موياي تاي".. قتال أطفال الفقراء في تايلاند