31-يوليو-2019

نابلس، داخل البلدة القديمة

لم تعجب مقالة عارف حجاوي "نابلس.. مدينة النساء القويات" أحدًا في نابلس، تُرك الرجل، ابن المدينة وصاحب الفضل الكبير على الصحافة وأهلها، فريسة لجمهور الفيسبوك النابلسي، على الرغم من أن المقالة لم تحمل ما يسيء للمدينة أو لأهلها. بل حمل في طياته شيئًا من الحميمية والحب نحو السَّكنة والمكان.

ترك عارف حجاوي، بسبب مقاله عن مدينته نابلس، فريسة لجمهور الفيسبوك

عقدة نابلس أنها مدينة ثالثة أو رابعة، قبل الاحتلال كانت بعد يافا والقدس، وبعده، وبفعل موجات اللجوء التي وصلتها وموجات الزحف من الريف تفاجأت أنها مرغمة على أن تصير مدينة وتكبر. وفي خضّم سنوات أوسلو وما تبعها صدمت أنها المدينة الرابعة بعد رام الله والخليل، والقدس طبعًا. هذه عقدتها، ولولا إضراب 1936 الشهير الذي وضعها على الخارطة السياسية حينها لظلت حبيسة كتب الرحالة وسجينة تراثها.

اقرأ/ي أيضًا: مكتبة عارف حجاوي

في مذكرات على الخليلي وفدوى طوقان، وفي تتبع سيرة عبد اللطيف عقل، ما يدعم ما جاء في مقالة عارف حجاوي وما يشي بالكثير.

العقدة الثانية أن نابلس مدينة عجوز عمرها خمسة آلاف سنة، هذا يعني أن خلفها تاريخًا طويلًا ومعقدًا، يتجلى في عاداتها المتوارثة التي أصبحت دينًا لا يقبل الاعتراض، ويرفض أية محاولة للتجديد، فلا الحداثة عرفت الطريق إلى شعرائها وكتابها، ولا التطور الاجتماعي نال من مجتمعها، بل ظل المجتمع النابلسي مجتمعًا أصيلًا بالمعنى التقليدي للكلمة، رافضًا المختلف والغريب وكل محاولة للتجديد.

يتجلى ذلك في سيرة عبد اللطيف عقل مثلًا، الذي درس في بيروت وأمريكا، وعاد ليترأس عمادة البحث العلمي في جامعة النجاح دون أن يحقّق إنجازًا يُذكر خارج الإطار الوظيفي في الجامعة، حتى مؤلفاته البحثية ظلت حبيسة المكتبات. هذا لا يقلّل من منجز عقل، لكنه يطرح أسئلة على صلة مباشرة بالمدينة والمكان وأثره على المبدع أو الكاتب. قصيدة عقل الذي كان في لبنان في ذروة الإشعاع الشعري لبيروت لم تستطع نقل الشعر، في فلسطين المحتلة والمحاصرة آنذاك، لتجاري الموجة الشعرية الجديدة. أما علي الخليلي، الذي سرقت نابلس عمره، فقد صرعته المدينة وخطفه تراثها. في حياة اجتماعية فقيرة ومحاطة بالأسوار يصير الإبداع اجترارًا، وتصير المخيلة على النقيض الجوهري من عملية الكتابة نفسها، وفي كل ما يتصل بالحداثة وتفرعاتها، لذلك ظل الخليلي مثل عقل، حبيس أسوار المدينة، وأبعد من ذلك، ذهب الخليلي إلى المدينة بخياره، أحاط تجربته بأبوابها وأناها العالية. الأنا في نابلس عالية، أعلى مما يتخيل عارف حجاوي نفسه، وربما لهذا السبب تعرضت المقالة لكل ذلك الهجوم، ولعله لهذا السبب أيضًا فضّل رام الله على نابلس حين رجع من إقامته في الخارج، وفضّل بير زيت على جامعة النجاح.

لا فرق بين جامعة النجاح وبين المجتمع المحلي، المشاكل التي يعاني منها المجتمع تعاني منها الجامعة

مع هذا التاريخ الطويل للمدينة، وعلى قاعدة ابن عربي "أن كل ما لا يؤنث لا يعول عليه"، باتت نابلس دون أنوثة، أو قل زادت أنوثتها سرًّا. المؤنث هنا مذكّر بفعله وحضوره. على سبيل المثال لا الحصر، تقول فدوى طوقان في سيرتها أنها تعرضت لاضطهاد من عمتها في بيت أبيها، إذ كانت العمة ذات سطوة وحضور لا تنازع عليه حتى من قبل رجال العائلة. تتضح الصورة أكثر عندما نعرف أن عمتها كانت مطلقة، القمع هنا يتخذ شكله الهرمي والتبادلي، الكل يقمع الكل والمكان يقمع الجميع، وللمفارقة المكان هنا مقموع، أو قل إن شئت إننا أمام حرمان صريح يمارس فيها الزمان والتاريخ والناس كل السطوة من حرمان المدينة من الحياة.

اقرأ/ي أيضًا: عارف حجّاوي: أخاف من الخائفين على اللغة العربية

أما العقدة الثالثة فتتمثل في المؤسسات المجتمعية والمدنية التي تتعامل معها كتراث. عارف حجاوي في مقاله تعاطى مع المدينة كتراث وتاريخ. لا فرق بين جامعة النجاح وبين المجتمع المحلي، المشاكل التي يعاني منها المجتمع تعاني منها الجامعة، لم تترك الجامعة أثرًا في المدينة رغم أفواج الخريجين التي غزت المدينة منذ تأسيس الجامعة، بالمقارنة مع أثر بير زيت على رام الله ومحيطها مثلًا. ينسحب هذا على كل المؤسسات التعليمية والخدماتية في المدينة، لذلك تبدو حياة نابلس اليوم أشبه بحياتها في البارحة، حياة في صورة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"الرخيصة والرخيص" لعارف حجاوي.. قصص قصيرة حقًّا

نابلس.. عقدة مدينة