تظهر قدماه في البداية، بنطال أسود، ثم يتبيّن أكثر فأكثر، يلبس سترةً سوداء وقميصًا أسود أيضًا، يضع يديه في جيبيه، يعتمر قبعة سوداء تخفي بظلّها تفاصيل عينيه، ولا يستطيع المراقب له إلا أن يرى شفتيه فقط. يتحرك بخطوات ثابتة على الرصيف، لا يتمتم، ولا يبتسم. الساعة العاشرة ليلًا، يتقدم حتى إشارة ضوئية حمراء، لكنه لا يقف، بل يكمل المرور إلى الجهة المقابلة دون التفاتٍ إلى اليمين أو اليسار. في تلك اللحظة تمرّ نحوه مركبة مسرعة أكثر من اللازم، لكنّ سائقها ينتبه متأخرًا لوجود رجل في منتصف الطريق، وليس هناك أيّ وقت لمراجعة نفسه عما إذا كان الضوء خلفه أخضر أم أحمر، لذا ما عليه الآن إلا أن يحاول ما أمكن ألا يتسبب بموت هذا الشخص، وفي الوقت نفسه ألا يودي بنفسه إلى الهلاك. لحظة عليه أن يقرّر فيها بشكل يفوق سرعة الموت. يشعر أن ملاك الموت يقف أعلى عمود الإنارة ويراقب ما سيحصل ليختار بعدها أحدهما. السيّد "الأسود" يسمع صوت فرامل مركبة قريبة، وشخصًا يصيح، وآخر من بعيد يصيح أيضًا، لكنّه لا يلتفت لما يحدث من حوله، ولا يعير اهتمامًا، ولا ينتبه إلى أنه السبب. جانب المركبة الأيمن يرتطم بشجرة، ثم يسمع صراخ آخر، يركض ثلاثة لنجدة سائق المركبة، يتأكدون من أنه لا أحد آخر معه، أحدهم يتصل بالإسعاف، ينجح الآخران في إخراج السائق الملوّن بالدم، يضع واحد منهما أذنه على موضع قلبه، ثم يصرخ: إنه حيّ. في تلك الأثناء، يكمل السيد المسير بكل هدوء وبرود، حتى أنه لا ينظر وراءه، يدخل في زقاق، ولا أحد يلحق به ممن كانوا في منطقة الحادث، فهناك بين أيديهم حالة يتوجب إسعافها، ثم يسمع مناديًا: "أيها المخبول"!

شخص يمكن وصفه بأنه "غير طبيعي"، فما حدث كان لا بد أن يسترعي انتباهه ولو بالتفاتةٍ نحو ما تسبب به مما يشبه الجريمة حتى ولو تم تبريره بغير قصد. يخرج من جيبه الأيمن سماعات أذن، يضغط مرتين على هاتفه المحمول، ويضع السماعات في أذنيه، ثم يرفع الصوت إلى أعلى حدِ ممكن، يعيد يده، ويكمل المسير مع رقصٍ خفيف أو نقرٍ حسب إيقاع ما يسمع. ينتهي من الزقاق، ثم يقف. وحيث تخرج الصراعات الداخلية في أوقات مفاجئة، يسأل نفسه: هل توجد تلك الفتاة التي يمكنها استيعاب هذه الآلة داخلي؟ أو هذا الصراع بين ضعفي والحياة، لقد دخلت تجربة الحب مرّة، وفقدت فيها شغفي كلّه، كأنني لا أصلح لبداية جديدة، أو كأنني استنفدت طاقاتي ومشاعري كلها، هل أخطأت أنني استهلكت نفسي؟ وهل كان عليّ أن أترك قليلًا مما هو داخلي لأي مستقبل غير متوقع؟

يستغرق وقوفه ناظرًا إلى أسفل حتى دقيقتين، ثم يتحرك نحو الجهة الجنوبية من الحيّ، ينتهي مقطع الموسيقى الأول، ثم يبدأ الثاني بشكل عشوائي، يسمع صوت إطلاق رصاصات فيه، فيقف مرة أخرى، يرفع رأسه فنرى عينيه اللتين لونهما ليس أسود، يغمضهما ويشدّ تفاصيل وجهه، فتخرج له ذكرياته التي يحاول الهرب منها، تلك الذكريات التي نخشى أن تعاد ولا نملك القدرة على نسيانها أو الاختباء منها:

"صوت إطلاق رصاص كثيف، يتبعه نداء نجدة وخوف، فتية يهربون، زجاج يتكسّر، صوت رجل فجأة تكاد حنجرته تتمزّق من صراخه فيوقف حركة الأشياء الأخرى لتلتفت إليه لحظةً، ثم يرتمي على الأرض، وتبدأ بركة من الدم تتشكل حوله. في الزاوية اليمنى للحدث، هناك مكعب حديدي، يختبئ وراءه فتى يرتجف، يضع يديه على رأسه متقوقعًا على نفسه، كأنه بهذه الهيئة يزيد من فرصة نجاته. ترتفع وتيرة الحدث الحربيّ حوله، الرصاص يصير قنابل، بيوت لا تستطيع حماية نفسها فتخرّ ميتة بأحجارها، أو حماية أصحابها فيموتون مع ذكرياتهم في المكان. الموت هنا عملٌ آليٌ، ولا يصل إلى هكذا وصف إلا إذا وصلت المأساة إلى حد تراجيديّ كبير، موت ثم موت ثم موت، أو ربّما موتان أو مجموعة في الوقت نفسه. الفتى يدرك أن المكان حوله هو ساحة أدركتها رائحة الموت تمامًا، والبقاء فيه يعني الانضمام إلى الجثث المكوّمة، وفي لحظة كتلك التي يقرّر فيها المرء أن يجازف بكل ما يملك، أن يزيد المراهنة، أن يقفز من الطابق العشرين، أن يتقدّم نحو ضربة الجزاء الأخيرة في نهائي البطولة، أن يقول أحبك، يقرّر الفتى أن يهرب، لا يعلم أي اتجاه هي النجاة إن وجدت أصلًا، لكنه ينتفض واقفًا، ثم يركض، يركض، يركض، يركض.."

السيد يركض، يركض، يركض، لكنّه الآن يعلم أين يتجه، يركض حتى يصل باب بيته فيضع جبينه عليه، يضرب بقبضتيه، ثم ينخفض شيئًا فشيئًا إلى أن يصل بكامل جسده الأرض جالسًا على قدميه، ويبكي.. ينظر السيد إلى أسفل ليرى دموعه التي تتساقط أمامه، يحدّث نفسه: ما تخيّلتَه انقضى وانتهى، ولن يعاد. لقد رأيتَ فيما مضى الموت واقفًا في الجهات حولك كلها، واستطعتَ بطريقة ما الهرب منه، منذ تلك اللحظة لم تعد تخشى شيئًا، حتى الموت نفسه، فالمحترم سيأتيك يومًا ما، سواء توقعتَ مجيئه أم لا، لهذا بدأت تحيا غير آبهٍ بما حولك، أنت "رجل آلي" بلا أحاسيس تربطه بالكائنات. لم تبكِ من بعد ذلك اليوم على وفاة أحد، ولم تأبه لفقدان حبيبتك، ولم تنزعج عند خسارة فريقك المفضل، أو إذا لم تكن قهوتك ساخنة كما يجب، أو إذا وبّخك أحد، أو أشياء أخرى كثيرة لا تهمّ.

يرفع نفسه شيئًا فشيئًا، تصل يده إلى مقبض الباب، يحاول التشبث به فيفشل، يمدّ يده المرتجفة مرة أخرى لتمسك المقبض ثم تهوي. في المرة الثالثة، ينجح في فتح الباب، ثم يدخل بيته حبوًا، يشجع نفسه على الوقوف، وبيده اليسرى يغلق الباب.

يرفع بصره إلى أعلى، يرى خيوطًا تمتد بين زاويتي الغرفة أمامه كأنها تشير إلى وجود عنكبوت في مكان ما قريب، لكن فوضاه المحيطة تخبره أنك ستجد صعوبة في إيجاده، وهذا يعني أنه سيظل حيّاً إلى أن يدركه عن طريق الصدفة. يشعر أن هذا الكائن دخيل عليه، وأنه يحتلّ مكانه الذي يألف، وأن أرضية بيته صارت لا تصلح للرقص الذي يمارسه في لحظات الجنون. وفجأة يكسر صمتَ المكان ويقول مرتبكاً: أيها العزيز، عليكَ الأمان، لكن حاول ألا تقترب مني، وإن شئت فأنا أتخلى لك عن أكثر من ثلثي الغرفة شرط أن نظل أصدقاء، وهكذا لن أخرب لك بيتك، ولن تزعجني في دنوّك منّي.

بعد عشر دقائق: السيد ينهي جدول أعماله المعتادة في بيته، والتي بدأت برمي ملابسه خارج الخزانة حيث لا تتسع لمزيد من الفوضى، يغسل وجهه، يحضر كأس شايٍ، ثم يجلس أمام التلفاز، ينظر إلى ساعة الحائط ليجدها قاربت على الحادية عشرة، يقلّب القنوات ليصل التي يفضل أخبارها، ينتظر المقدّم قليلًا، وريثما تبدأ يعيد شريط أخبار البارحة: قتلى وجرحى بأعداد تتغير بين يوم وآخر، لقاءات بين مسؤولين لا تقدّم ولا تؤخر، وأشياء أخرى من هذا التصنيف صارت بفعل تكرارها أشياء أقل من عادية.

يتذكر أنه ترك شاحن هاتفه المحمول على سريره، فيذهب لإحضاره ليلاحظ ودون خجلٍ وجود العنكبوت على وسادته بأرجه النحيلة، يقف السيد متسمّرًا، فلا يحاول إيجاد شيء قريب منه ليقتله، أو أن يتخلص منه بأية طريقة، يقول في سرّه: من الممكن أنه تعب من الزوايا ويريد تجربة الفراش. يعود بهدوء حتى لا يزعجه، ثم يطرح السلام على مقدّم الأخبار فيجده قد غادر التلفاز، يقلّب المحطّات دون تركيز، ثم يسأل بصوتٍ مسموع: أيتها الآلة، قلبي، بيت العنكبوت، رفيق مقدّم الأخبار، الفتى الناجي من الموت، تكفي صلاتك ألا يجاورك أحد، أما آن لك أن تحبّ من جديد؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

بيورنستيرن بيورنسون: الأب

على هيئة صخور صماء