24-أغسطس-2015

كيف لنا أن نسأل العرب إعادة ثقتهم بالفضائيات العربية؟! (Getty)

كبرت وترعرعت قبل أن يبلغ عصر الرقمنة ذروته، كما هو حاله اليوم. حينها، كان التلفاز صديقي الأوحد، أقضي ساعات طويلة يوميًا بمشاهدة ما يـُبث، أتابع الفضائيات العربية المختلفة لأجل برامج معينة. كنت أهوى التنقل بين الفضائيات خلال جلسات المشاهدة، حتى باتت عبارة "إرسالك على بر" متوقعة تلقائيًا من أفراد عائلتي كلما أمسكت جهاز التحكم.

عشقت الدراما السورية لواقعيتها، وكنت أتتبع أعمالها دومًا، وأراقب ساعات البث، إلى جانب متابعتي للعديد من البرامج الحوارية والإخبارية، والوثائقيات التاريخية والسياسية، يومًا بعد يوم، أضفت مزيدًا من القنوات إلى قائمة "المفضلة" الخاصة بي، ولطالما اعتقدت أنني المشاهد الوحيد لبعض القنوات غير المعروفة على الإطلاق، والتي كنت أكتشف المزيد منها كلما نبشت جهاز "الريسفير" وصولاً للقناة رقم 700 أو 800.

العلاقة بين الإعلام التقليدي والمواطن العربي ستحتاج سنين طويلة لتستعيد عافيتها

في الحقيقة، كانت متابعتي تلك غاية في البراءة، كنت أتلقى كل ما يبث دون أي تمحيص، ولم أعر أي اهتمام لطبيعة القناة أو الجهة التي تتبع لها، بل لم أفكر بذلك يوماً. ربما يعد الأمر طبيعيًا بالنسبة لطالب جامعي التحق للتو ببرنامج البكالوريوس في الإعلام، بعد أن أنهى الدراسة الثانوية. تزامن ذلك مع نهاية عام 2010، أي قبيل اندلاع الثورات العربية، أو الربيع العربي، أو غيره، سمه ما شئت، والتي معها بدأت تحولات جذرية في الإعلام العربي المتلفز تبدو جلية.

في تلك اللحظة، اختلفت المسألة كليًا، وبات للعبة معادلات تحكمها. لقد كشرت الفضائيات سريعًا عن أنيابها، وكشفت وجهًا آخر لدوراتها البرامجية. اصطفت الفضائيات يمينًا ويسارًا لدعم أحد أطراف النزاع، لا يدور الحديث هنا عن القنوات الإخبارية البارزة فحسب، بل امتدت الظاهرة لتشمل قنوات لم تكن يومًا مهتمة بالسياسة أو المتابعات الإخبارية قبل بدء الثورات. تجند بعضها لخدمة الأنظمة الحاكمة في بعض الدول، وأخرى لدعم المعارضة، حتى باتت الفضائيات مقاتلًا شرسًا في ساحات النزاع. تلك كانت لحظة الحقيقة، اللحظة التي بانت فيها ولاءاتها وتلونت لخدمة أجندتها في "وقت الضيق".

زاد الأمر تعقيداً مع اشتعال المنطقة وامتداد التوترات للعديد من دول الشرق الأوسط، وتشكل المعسكرات الإقليمية. لم تنأ الفضائيات بنفسها عن ما يجري بل أقحمت نفسها بقوة في الميدان. وبات توجه الفضائيات خاضع للمعادلات السياسية الإقليمية، فيكفي أن تخبرني عن موقف فضائية ما من الأزمة السورية، فأخبرك بموقفها من إيران، والأزمة اليمنية، والمصرية، ودول الخليج، وتركيا، والولايات المتحدة، وروسيا والصين.. إلخ.

زادت متابعتي للقنوات في تلك الفترة، وطغى على تلك المتابعة طابع المقارنة، لا أبالغ إن قلت أني كنت أتابع الحدث الواحد على ثلاث إلى أربع فضائيات، وأحيانًا أكثر، رغم معرفتي المسبقة للهجة ونوعية الخطاب. بت أراقب الصياغة والمصطلحات، وأسلوب سرد "الحقائق"، كيف لا، فأنا اليوم طالب في سنتي الثانية في كلية الإعلام، وكنت قد تعمقت أكثر في موادي الدراسية. درسنا مبادئ العمل الصحافي، وتعلمنا مفاهيم المهنية، التوازن في التغطية، الحياد، الموضوعية، وغيرها. وكنت أرى نقضيها تمامًا كلما شاهدت الفضائيات العربية، وبنسب متفاوتة من واحدة لأخرى. 

مما لا شك فيه أن الفضائيات العربية لعبت دورًا هدامًا في مختلف الدول العربية، وأثرت على مجتمعاتها سلبًا بصب الزيت على النار، إذ تفانت في الدفاع عن من تؤيد في الحق والباطل، واستشرست في الهجوم على من تعارض. شاع الرقص على الأشلاء على الهواء مباشرة، والحث على الكراهية ضمنًا وعلنًا، وباتت مشاهد الجثث والدماء مشهدًا عاديًا للمشاهد العربي. عززت تلك التغطية الإخبارية المذهبية والطائفية، وزادت من عمق الشروخات السياسية. 

تعلمت خلال الدراسة أن الإعلام في راوندا الأفريقية كان سببًا رئيسيًا في المذابح التي ارتُـكبت في البلاد عام 1994، والتي راح ضحيتها أكثر من 800 ألف شخص من قبيلة التوتسي على يد الأغلبية في راوندا من قبيلة الهوتو، فقط لاختلافها في العرق أو الطائفة أو اللون السياسي. حينها، كانت الإذاعات المحلية تصف أبناء التوتسي بـ"الصراصير"، بل ودعت علنا "لقتل أي صرصار يصادفك في الشارع"، وباتت عبارة "فلنفرح أيها الأصدقاء، فالصراصير باتت أقل" شهيرة جدًا على المذياع المحلي الراوندي.

من الواضح أن الإعلام العربي لا يتعلم دروس غيره من الأمم، ولا يوجد فروقات تذكر بين ممارسات الإعلام الراوندي في تسعينيات القرن الماضي والعربي في أيامنا هذه، وإن كان خطاب بعض الفضائيات "أكثر تهذيبًا" على الهواء نوعًا ما، ظاهريًا على الأقل.

 عززت الفضائيات العربية التغطية الإخبارية المذهبية والطائفية، وزادت من عمق الشروخات السياسية

من المحزن كيف استخفت الفضائيات العربية بمشاهديها، أخبرني أحد أصدقائي الألمان أنه يتابع إحدى الفضائيات العربية المرموقة بنسختها الإنجليزية باستمرار، وقد وصف تغطيتها بالأمينة والرائعة، مما أثار استغرابي الشديد، على اعتبار أن تلك الفضائية بنسختها العربية باتت مكشوفة التوجه لكل مواطن عربي صغيرًا كان أم كبيرًا. دفعني وصف صديقي الألماني لمتابعة تلك الفضائية العربية بنسختها الإنجليزية، وقد كان رأيه صائبًا بالفعل. وهنا، أمام هذا الاكتشاف الجديد، والفرق المذهل بين النسختين العربية والإنجليزية من الفضائية، لم أتوصل إلا إلى تفسيرين اثنين، لا ثالث لهما، الاستخفاف والاستهانة بالمشاهد العربي وقدرته على "فلترة" الرسائل الإعلامية التي يتلقاها أولاً، وأن الخطاب الإعلامي المنحاز موجه للعرب فقط ثانيًا، فهم هدف الفضائيات الأساسي، وعليهم تأمل الفضائيات إحداث الأثر. فما حاجتها لبث خطاب الكراهية لمواطن ايرلندي، على سبيل المثال!

على المشاهد العربي عتبٌ أيضًا، فنحن بطبيعتنا نبحث عن الخطاب الإعلامي الذي يعزز أفكارنا وتوجهاتنا ويتوافق معها، بل ويخشى بعضنا مضاربة أفكاره بالاطلاع على فضائيات محايدة، إن وُجدت، أو مخالفة لتوجهه. فنحن الجمهور، أولًا وأخيرًا، نشكل "رأس المال" لأي قناة تلفزيونية، ولولا التفافنا المقيت حول العديد منها، لما كبرت وتضخمت وتابعت عملها.

والآن، وبعد كل تلك التراكمات، كيف لنا أن نسأل العرب إعادة ثقتهم بالفضائيات العربية بشكل خاص، والإعلام العربي بشكل عام؟ أشك أن ذلك بات ممكنًا، فالعلاقة بين الإعلام التقليدي والمواطن العربي ستحتاج سنين طويلة لتستعيد عافيتها، خاصة مع نشوء مئات المواقع الإعلامية البديلة، وعشرات منصات "المواطن الصحفي" على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة. 

أشعر بالخجل إن قلت أن الفضائية الوحيدة الناطقة باللغة العربية التي أثق بها تمامًا، وتستحق وصف المهنية والمتوازنة، هي فضائية غير عربية! وسيتملكك الشعور نفسه إن طلبت منك ذكر اسم فضائية عربية واحدة فقط لم تنحز لأي أطراف النزاع! واثق بأنك لن تستطيع.

يعيش الإعلام العربي حاليًا أسوأ فتراته، وهذا أمر سيذكره التاريخ جيدًا. ولو كنت مدرسًا أو محاضرًا بإحدى كليات الإعلام في الوطن العربي، لانتهزت هذه الفرصة الذهبية بتسجيل أكبر قدر ممكن من النماذج الإعلامية المثيرة للسخرية على الفضائيات العربية، فهي حتماً أفضل درس يُـقدم للطلبة، ليراقبوا كيف تنسف قيم ومبادئ العمل الصحفي الأساسية، وكيف باتت الفضائيات دمىً يحركها ملاكها من المتنفذين.