ألترا صوت – فريق التحرير

أول أعمال الشاعر عباس بيضون هو "الوقت بجرعات كبيرة"، وهي المجموعة التي صدرت قبل ديوان - قصيدة "صور"، مع أنها كتبت بعدها. نعود إلى صور، العمل الأول من حيث الكتابة، والأساسي في تجربة بيضون، لنقرأ ذلك النشيد العالي عن المدينة البحرية القديمة. تقول الناقد العراقية فاطمة المحسن: "هذا الغضب الذي يشعل قصيدته دون أن يحرقها، دون أن يجعل منها بيانًا لفظيًا، هذا اليأس الذي أطل فيه على مشارف مدينته صور ليرثي فيها الجمال الذي تحول قبحًا، كل تلك الانتباهات الصغيرة التي توحد السخط بالمحبة بالتوق، كل ذلك البهاء الذي طلعت فيه القصائد من شعور قاتم باليأس والخذلان، كلها تبدو فعل مواجهة مع الموت، الموت الذي لا يخافه عباس، حتى وهو يضعه عنوانا لديوان الموت يأخذ مقاساتنا".

عباس بيضون شاعر ولد عام 1945 في مدينة صُوْر، جنوب لبنان. مارس العمل الحزبي مبكرًا فانخرط في حركة القوميين العرب، ثم في منظمة الاشتراكيين اللبنانيين أواخر الستينات، والتي تحولت إلى منظمة العمل الشيوعي، واعتقل من قبل الدولة اللبنانية (1968-1969) ثم من قبل إسرائيل في الثمانينيات، وكتب عن تجربة اعتقاله شعريًا.

مارس الكتابة الصحفية في العديد من الصحف، ليستقر مديرًا للقسم الثقافي في جريدة "السفير" منذ عام 1997 حتى إغلاقها.

من أعماله: "الوقت بجرعات كبيرة"، و"خلاء هذا القدح"، و"حجرات"، و"أشقاء ندمنا"، و"لفظ في البرد"، و"بطاقة لشخصين".


يا صور.. حين نزلنا إليك انتزعت من حناجرنا الوتر الفلاحيّ، وها نحن بالكلمات التي تعلمناها منك لا نستطيع أن نصفك.

 

لا نصفك لأنك ما زلت تبحثين في جلدك

                    عن فمك المندمل

ولأنك تنطقين بزفير ساخن

على وجوه مخاطبيك القليلين

لأنك بلا صوت تحكّين يابستك ورملك

وتلقين بلا تحية يدك

                     على شمال البحر

 

هذا هو جسدك يضيع ولا مصباح على جلدك

                    يقرع فوق طرقك الهاربة

ستتآكلين وستتجمع حجارتك كل عام

بعد أن تهبط أوتادك ستصبح لك كل عام

                    جثة حجرية

 

ستقعين عند البحر

بينما تلمع مطابخك من بعيد

 

لقد قامت خصاص سريعة

                    تحت سقوفك الساقطة

لكن النوافذ التي تفتح في رمتك

لا تدعو المتنزهين ولا التلاميذ

 

رأسك بين كتفيك وأكتافك تنحني

ولن تستطيع النسوة المنتظرات تحت الأدراج

                    وفي الغرف العالية

قدوم الأبناء والأزواج المتخلفين في الحانات

لن تستطيع الكلاب الجائعة

ولا أرضك التي تغلي بالفئران

أن تمنع طرقك من السقوط في الخنادق

                    ودورات المياه

والتجول في الأدغال الداخلية

أنفاقًا حرة

أن تنزع النجوم من عيون الثقوب

                    وعيون الحشرات

 

وتفك الشوارع

من عقدة إبهامك الضيقة

 

ستقعين أيتها الأم المسنة

ولن تقوم مدينة بعد الآن

ستزلين على أضلاعك كالمدخنة الهاوية

وترقدين على الشاطئ ورأسك في الرمال

                    ككلب البحر

 

لن يكلمك أحد فمن يحدس أنك تتكلمين

وسط نسمتك المتعثرة

ووسط مصابيح السيارات المسلطة على حدودك

من يحدس أن حرفًا أصغر من جناح ذبابة

ينزل مغبرًّا بالبارود

وسط الرصاص الذي بدرز نوافذك

ويصمت في الدم الذي يلطخ الأبواب

من يحدس أن فمك الذي ضاع في جوفك

كخاتم في بئر

ينطق في عاصفة رعديّة

وموجة ترفع السواحل

 

لن يكلمك أحد

ولن تتبدل مياهك بعد الآن

ستكونين في طرف العالم

وسيرجع الجميع قبلك

الحدائق التي ترافق البحر

لن تجرؤ على اقتحام أحجارك السود

والطيور المهاجرة تخشى أن تعتقل

                    في غيومك المدخنة

سحابة أزهار الليمون التي تصحب المسافرين

ستهبط على تخومك القريبة

ولن يصل المسافرون

ولن تتبدل سماؤك

 

سيبقى لك الهواء الذي يتلكأ

عند مداخل الأزقة

يفور دائمًا بالملح والرمل والذباب

ينزف على الأواني والسواقي والأنقاض

ساقطًا هنا وهناك،

بطيئًا،

مذ دوخته ملوحة الضفاف

ويترك في عقود العرق النازفة

ثقل دموع البحر.

 

اقرأ/ي أيضًا:

إلياس أبو شبكة: في هيكل الشهوات

زاهر الغافري: مصائر لا تنتهي