06-فبراير-2022

(Getty Images)

لن نزيد أو ننقص في طنبور العالم وترًا، لو قلنا وبإطلاق مريح إنّه ما من لغة بشريّة في التاريخ قد بلغت ما بلغته الإنجليزية في عصرنا اليوم من سيطرة وتفشٍّ على مثل هذا النطاق الواسع المتقدّم باطّراد على خطّي الزمان والمكان، منذ أربعينات القرن الماضي على الأقل.  

للغة الإنجليزية اليوم هيمنة صامتة، تبدو وكأنّها طبيعيّة وأزليّة، تترسّخ مكانتها لحظة فوق لحظة، في واقعنا بشكليه المادي والافتراضي

ولنأخذ مثالًا بسيطًا، ومن خارج العالم العربي، كي لا نُتّهم بجلد الذات واجترار أرقام يراها البعض مغرِضة، مثلما يُقال في كلّ مرّة نندب فيها حالة الثقافة والكتابة والترجمة عربيًا. فبحسب ما تنقل النسخة الإنجليزية من صحيفة "إل باييس" عن تقرير معهد إلكانو الإسباني، الذي أعدّ بالتعاون مع منظمة الدول الأيبيرية الأمريكية للتربية والعلم والثقافة، فإن 95 بالمئة من كافّة ما ينشر في المجلّات العلمية التابعة لدول المنظمة، يصدر باللغة الإنجليزية (بيانات العام 2020)، وأنّ نسبة ضئيلة بالكاد تبلغ 1 بالمئة، ينشر بالإسبانية أو البرتغالية. 

كما تشير الإحصاءات بحسب القائمين على الدراسة إلى أن 84 بالمئة من الباحثين من هذه الدولة (22 دولة، من بينها إسبانيا، والأرجنتين، والمكسيك، وكوبا، وتشيلي)، قد نشروا أبحاثهم بالإنجليزية، مفضّلين ذلك على النشر باللغات الأصلية التي يتحدثون بها (الإسبانية أو البرتغالية).

الحالة لا تختلف كثيرًا في العديد من الدول الأخرى حول العالم، إذ تتراجع نسب الأبحاث المنشورة بلغات كانت تحسب سابقًا لغاتِ علمٍ عالمية، كالألمانية والفرنسية والروسية، حتى باتت لا تمثّل شيئًا ذا بال اليوم أمام مجموع الأبحاث التي تنشر بالإنجليزية، التي هيمنت وبلا منازع على إنتاج المعرفة والمعلومات وانتشارها في عالمنا اليوم، وقزّمت أمامها كل لغة رئيسية أخرى وأكلت من نصيبها ونصيب الناطقين بها من حقهم في الاطلاع على المعارف وكتابتها بلغاتهم التي نشأوا عليها.

الطريف رغم كل هذا الوضع المهيمن للإنجليزية، حتى في بعض انفعالاتنا اللغوية اليومية أو تعبيرات أطفالنا من حولنا الغارقين في محيط لغويّ إنجليزي يكاد يكون جبريًا، هو تلك الدعاية الشعبويّة التي تتكرّر في كلام بعض السياسيين وفي مقاطع الفيديو المنتشرة عبر الإنترنت لمتطرفين بيض في الولايات المتحدة أو إنجلترا، حيث يتهجّمون هائجين على كلّ من يتحدث بلغة أخرى في الأماكن العامة ووسائل المواصلات، خشيةً من تلويث أسماعهم وأسماع أطفالهم بلغة غير الإنجليزية، وكأن حالةً من قداسة حديثة شوفينية حلّت في الإنجليزية وفي حروفها. أوَلم يقل ثيودور روزفلت في أحد الأيام من عام 1919، أنّ الأمّة الأمريكية "لا تستوعب سوى لغة واحدة، ألا وهي الإنجليزية، وأن البوتقة التي تجمعنا ستجعل منّا أمريكيين، حاملين للهوية الوطنية الأمريكية، وليس مجرّد قابعين في محطّة من الهجنة اللغوية"، كما يروي جاكوب ميكانوفسكي في مقالته الطويلة على الغارديان حول توحّش الإنجليزية وتنمّرها. 

وعلى ذكر الهيمنة المفرطة للإنجليزية اليوم، والرضوخ المطبق لها، ربما تجدر الإشارة أيضًا إلى أنّها هيمنة صامتة، تبدو وكأنّها طبيعيّة وأزليّة، تترسّخ مكانتها ومكتسباتها لحظة فوق لحظة، وكلمة فوق كلمة، في واقعنا بأشكاله المادية والرقمية والافتراضية، حتى بات من العبث مساءلة هذه المكانة المسيطرة لهذه اللغة والتفكير بزعزعتها. وهذا الانطباع بالمناسبة سائدٌ لدى الطرف المهيمِن مثلما هو سائدٌ لدى المهيمَن عليه. وللتدليل على ذلك سأسوق قصّة طريفة، وردت في كتاب "هيمنة الإنجليزية" (Hegemony of English) للثلاثي الأكاديمي دونالدو ماسيدو، وبيسي دينديرنوس، وبانايوتا غوناري.

القصّة باختصار أنّه وفي إحدى الندوات النقاشية الأكاديمية حول موضوع الثنائية اللغوية، وتدريس اللغات الأجنبية للطلبة في المدارس الأمريكية، ثار نقاش حول سبل التوعية بأهمية هذه الأمر في ظل الهيمنة (Hegemony) التي تتمتع بها الإنجليزية. الصدمة لدى المجتمعين حصلت حين تدخّل أحد المختصّين اللغويين من خريجي جامعة هارفارد، سائلًا بصفاقةٍ خرقاء عن معنى كلمة "Hegemony". ومع أن السؤال أعقبته لحظات من الصمتِ المربك في الندوة، إلا أن مؤلّفي الكتاب رأوا فيه دليلًا على التغييب لموضوعة الهيمنة في العقل الأكاديمي المعاصر، في سياق افتراض طبيعيتها الثابتة والمستحقّة وشبه الأزليّة، وأن عديد المتخصصين في مجال اللغة في أعرق الجامعات الغربية لا يتعرضون سوى لمامًا لمواضيع اللغة والأيديولوجيا والهيمنة والسياسة والاجتماع العالمي والعولمة، وحالة التعليم والمعرفة والتحرّر وحقوق الإنسان، ووضع لغات العالم أمام استبداد الإنجليزية الساحق، وما فيه من تهديد لمستقبلها وحيويتها، وحياتها. 

ضمن هذا السياق، لا يعود من الغريب صعود لعبة ألغاز لغوية مثل لعبة "ووردل"، والتي نسجت حولها حكاية رومنسية محكمة، عن شابّ (من عائلة ووردل)، يحبّ فتاة تعشق الكلمات المتقاطعة والألغاز اللغويّة، فيصمّم لها لعبة بسيطة، يُطلب فيها من اللاعب أن يحزر كلمة مكوّنة من خمسة حروف، عبر خمس محاولات يجمع من كلّ منها الحروف التي تتكوّن منها الكلمة اللغز.

قد يطيب للبعض، بحسب مقال الصحافية اللبنانية ومراسلة الشؤون الدينية  في بي بي سي العربية سناء خوري، مقاربة هذا الصعود العالمي للعبة ووردل، عبر التفكير بما يقوم حول اللعبة من حالة طقوسيّة، لاسيّما أنها لعبة متاحٌ ممارستها لمرّة واحدة فقط في اليوم، وأنها لعبة موجودة على محرّك البحث فقط، وليست على تطبيق منفصل مثل معظم الألعاب. كما أنّها ليست مرتبطة بنموذج أعمال ربحيّ، فليس في الموقع دعايات ولا اشتراكات ولا بهرجات رقمية. كل ما هنالك جدول من ستة أسطر، كل سطر يتألف من خمسة مربّعات، وكل ما يلزم هو اختيار كلمات خماسيّة الأحرف، بتأن وذكاء، حتى يكتشف اللاعب الكلمة اللغز قبل انتهاء المحاولات الستة.

غير أنّ اللعبة، بما فيها من كل هذه العناصر المتسامية التي تضمّها، وأوّلها اللغة والحروف التي ترتبط بقداسة معروفة في الوعي البشري، لم تكن لتنجح ولا لتحوز كل هذا الزخم وتتحوّل إلى ظاهرة عالميّة، إلّا لارتباطها باللغة الإنجليزية، كونها اللغة التي يتجاوز عدد المتحدثين بها لغةً أصلية زهاء نصف مليار إنسان، ويتداولها أكثر من مليار إنسان آخرين، بفضل اعتمادها لغة رسمية في 59 دولة، ولغة مشتركة معتمدة في حواضر المعمورة كلّها تقريبًا.

حالة الهيمنة هذه، قد بدأت تفرض ذاتها على نحو سريع منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وصعود القوّة الأمريكية مع تضاؤل حضور الألمانية كلغة للعلم وإنتاجه، مثلما حصل مع الفرنسية ومن قبلهما اللاتينية، إلى أن وصلنا اليوم إلى حالة ذهنيّة تفترض سلفًا أن ما يُكتب بالإنجليزية هو بالضرورة الأفضل والأسلم، مع تعاظم يكاد يكون ديماغوجيًا لرأس المال الرمزي لهذه اللغة. وليس الخطر متوقفًا على هذه الحالة، وإنما يمتدّ بحسب تقرير منظمة الدول الأيبيرية الأمريكية إلى تهديد مكانة ما يُكتب بلغات غير الإنجليزية، والتقليل من قيمته لمجرّد أنّه كتب بلغة أخرى. هنا يشعر الباحثون بأنّ لا مفرّ من الكتابة بالإنجليزية لمن يبحث عن التميّز والاعتراف، فلا تعود الإنجليزية لغة تواصل عالمي، بل لغة تقييد وقهر وإفقار للغات المحليّة بإفقار ما يُكتب بها، كمًّا ونوعًا، وهو ما يؤدي في المحصّلة إلى تقييد الوصول إلى المعرفة بسبب هذه اللغة التي تغلق أبوابًا بقدر ما تفتح أخرى.

ثم إنّ اللعبة تجرّدت تلقائيًا من براءتها الطقوسية، على فرض أنّها وجدت أصلًا في هذا السياق، حين صارت وبشكل رسمي جزءًا من هذه المنظومة التي تنتعش بها الإنجليزية، بعد أن أعلنت نيويورك تايمز، إحدى أكبر الصحف الأمريكية وأعرقها، والتي تبلغ قيمتها السوقية زهاء 40 مليار دولار أمريكي، عن شراء اللعبة من صاحبنا الرومنسي، الذي وجد أن الملايين أنفع له ولصاحبته من الاحتفاظ باللعبة التي كانت عربون محبّة بينهما. 

ثمّة لا شكّ عوامل رافعة أخرى تفسّر نجاح لعبة مثل "ووردل"، قد لا تنفصل كثيرًا عن الوضع المهيمن للإنجليزية بطبيعة الحال، لكنّها مهمّة كظواهر تستحق المتابعة في ذاتها. من بينها طبعًا وسائل التواصل الاجتماعي وقدرتها على خلق التريند محليًا وعالميًا. ومنها ذلك التاريخ الطويل والمثير والمعقّد للعبة الكلمات المتقاطعة وأحاجي اللغة في الثقافة الأنجلوأمريكية، وهو ما جعل صحيفة مثل نيويورك تايمز تستثمر في لعبة ناشئة مثل "ووردل" وتنسج حولها وحول مصممها سرديّة دراميّة ذات فعالية تسويقيّة لا يستهان بها، لتعمد بعدها إلى الاستحواذ عليها بمبلغ مليونيّ في صفقة غير معلن عنها. كيف لا والصحيفة تعتبر أن الألعاب التي تقدّمها للقراء، ومن بينها الكلمات المتقاطعة، عنصر أساسي في إستراتيجية نموّها وتأثيرها في بناء تجربة كل شخص قارئ للإنجليزية في العالم أجمع، أيًا كان موقعه في العالم. 

الصعود السريع للعبة "ووردل" وتحولها إلى ظاهرة عالمية لا ينفصل عن الوضع المهيمن الذي تحوزه اللغة الإنجليزية في العالم الرقمي والمادي

قصة لعبة "ووردل" ليست مجرّد قصّة حبّ عابرة تحوّلت بقدرة قادر إلى ظاهرة عالمية في غضون أشهر معدودة، بل هي قصّة تذكّرنا مجددًا بوضع لغة مهيمنةٍ، بلغت حدًا أقصى من التغلغل الطاغي، المسبّب للملل على الأقل إن لم يكن مثيرًا للقلق والتهديد المستمرّين.

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

"ووردل".. دي قصّة حُبّ

نيويورك تايمز تشتري لعبة "ووردل" في صفقة سريّة تقدر بالملايين