القارئ الكريم، القارئة الكريمة؛ أقسم بقبر سيدي زيد، أقدس الأولياء في عرف أمي، أنني شخص متزن وذو عقل راجح وصحة كصحة الحديد، غير أن لأصابعي، فليكن ذنبها مغفورًا، قصة أخرى.

منذ نعومتها وصغري، كان لأصابعي حياة خاصة، مزاج يخالف مزاجي، وتقاليد لطيفة وغريبة. لها قلب وعيون ومخططات شخصية، وقدرات تجبرني على الانحناء إعجابًا وإكبارًا. 

لم يرافقني صاحب كما رافقتني، ولم تكن لي حبيبة كما كانت. نطوي الليالي الموحشة ونتقاسم النهارات الصعبة والمبهجة. نتحدث بالساعات، أعلّمها وتعلمني، نتبادل الخبرات ونواسي بعضنا البعض إثر الهزائم. كان وقتنا طاعنًا في الصحبة وتقطعنا الذاكرة كواحد. 

أجلس أشاهد الرسوم المتحركة بينما تعرف هي طريقها في ظلام أكوام العدس. تميز بعين خبير بين الحب الصالح والآخر المنخور وبقايا الحجارة الصغيرة، ونحصل في آخر النهار على تمرة محشوة بالفستق كمكافأة.

برعت بلغتها الغنية في حركات التهديد والتعبير والشتم البذيء. تدافع عن كلينا وتقول ما يعجز عنه لساني ولغتي الكلامية المهلهلة. وفوق كل هذا تكفينا عواقب الأمور. فحين يشكو أحد أولاد الحارة بذاءتي ومبادرتي في العداء يقسم الآخرون أن أحدًا منهم لم يسمع مني حرفًا ولم يلمح تزحزح أقدامي، فيُكبر البالغون فيّ رجاحة عقلي وتدور دوائر الكذب على الواشي.

كما أنها وللحق كانت معيني ومصدر رزقي، ولا أبالغ حين أقول إن لحم أكتافي من خيرها بعد خير الله. ففي المرحلة المدرسية الأساسية كان بإمكان زملائي استئجارها لامتحانات الرياضيات مقابل حصة مقطوعة من مصروفهم. وفي المراحل التالية صارت طباعة خمس أوراق مثيرة للإعجاب وضامنة لعلامة مرتفعة، تكلف صاحبها علبة سجائر ولا يكلفنا بضع دقائق. 

وفي العطل الصيفية ومواسم الجفاف المدرسي وتدني مستوى الطلبات، كنت أسمع تهامس الجارات حول الصبي ذي المواهب النسائية. ففي الوقت الذي كانت الواحدة فيهن لا تتجاوز ببراعتها غرزة الطوق في التريكو، كنت أجيد الغرزة البليسية والجيرسية والفانديك، المتبادلة منها والمزدوجة والمبرومة. وأكفي بهذا أمي ثمن الهدايا في المناسبات؛ أنسج لناجحات الثانوية حقائب ملونة تتسابق عليها الغزلان، أو يرفرف على جوانبها الفراش، وللوالدات جراء زرقاء ووردية، وللعرائس الجدد مفارش ذات بهجة. وحين يبادرن أمي مشفقات أو بحسد "ما بال الصبي لا يلعب الكرة كأبناء جيله"، تقول أمي في غير ذات بال: "ليس لأقدام حسني حظ من البراعة كحظ أصابعه". وللحق أيضًا فقد كنت صبيًا بليدًا حلزوني الحركة. 

وفي جلسات الصغار من أبناء العمومة والأخوال، كنت بفضلها نجمًا تدور عيون الأطفال في فلكه، إعجابًا من بناتهم وغيرة من الصبيان. نختبئ، أصابعي وأنا، خلف ستارة ونلعب خيال الظل. فتصير أصابعي فراشة أو عنقاء أو كلبًا بوليسيًا. وفي أوقات أخرى نرتدي الدمى ونرقص كفيفي عبده في عز شبابها، ونجعل ليلى ذات الوشاح الأحمر تمتطي ظهر الذئب حتى يصهل. وحين تفتحت على عالم النساء، كانت لي خير معين. وقعت النسوة في حبها أكثر مني، فهي تجيد من اللمس والهمس والتقبيل والدلال ما أحمّر منه خجلًا. 

لم يكره أصابعي أحد غير جدتي، كانت كلما رأت ما عملته يداي من وجوه صغيرة متقنة، تنهرني وتقول "غدًا يوم الحساب ينادي عليك الله ويقول يلّا يا حسني ابعث فيها روحًا". تنتزعها من بين أصابعي وتشد الأخيرة تسبح عليها ليغفر الله لها ما اقترفت ويلهمها الشهادة وقت الموت. والحمد لله أن ليس لأصابعي أذن موسيقية، وإلا لكانت جدتي اتخذت منها مسبحة عقب كل صلاة وما أكثر صلوات العجوز! 

تشاركنا من المغامرات ما كان يتركنا مع رغبة ملحة بالتبول، نجوب الممرات الضيقة في جيوب أبي، والطرق الممنوعة على أرداف زوجات الآخرين، ونحط بعنف على أعناق الصغار وأذناب القطط. ولا أكاد أحصي اليوم عواقب ذلك كله من ضرب على باطنها وظاهرها وخرمشات وآثار أسنان. 

لا أذكر تمامًا متى بدأت علاقتي بأصابعي تسوء. آمرها فتعصيني، أرجوها فتتمنع، أهددها فتتمرد وتحرجني. تنقر طاولات المكتبة حتى إذا حدجتني العيون غادرت مسرعًا وبي حنق يكاد يغلي. ينزل المصعد ويصعد مرات قبل أن أطلب من أحدهم ضغط زر الطابق الثالث لو سمح، لأن أصابعي تأبى. تشتعل السيجارة وتحترق حتى إسفنجتها دون أن أعب منها نفسًا واحدًا، فأصابعي ترفض رفعها. وينكسر ظهري مرارًا وأنا قابض على أكياس الخضراوات لا أستطيع إفلاتها. وطبعًا لا داعي لأن أخبركم بتدهور علاقتي العاطفية، وفشلي في تبرير ارتخاء قبضتي في عز اللحظة الحميمة. 

في ليال متفرقة، كنت أستيقظ لأجدها قد أنشبت أظفارها في صدري، أو انغرست متشنجة ملتاعة في ملاءات السرير. أما الآن وفي لحظة حديثي إليكم فإن أصابعي يا سادتي تلوح لنفسها بسكين حاد. يرتجف جسدي كله ويلهث الخوف في عيني، وأنا أنظر إليها ساكنة جدًا، ساكنة بشكل مخيف.

 

اقرأ/ي أيضًا:

قصائد السارين

الكوابيس الأخيرة التي لن يحكيها الرجل لأحد